في حرب عام 48 تم احتلال القدس الغربية، والتي شملت حارات فلسطينية عدة تم بناؤها خارج اسوار القدس العتيقة. أما القدس القديمة والتي كانت تحت حكم الانتداب البريطاني أسوة بباقي أنحاء فلسطين، فقد صارت بعد قرار التقسيم والحرب تحت وصاية الأردنيين، وصارت تفصل بين قسمي المدينة بوابة سميت "بوابة مندلباوم"، لربما على اسم ضابط بريطاني قام بالإشراف على قرار التقسيم.
يبدو أنه تم الاتفاق بعد وقف إطلاق النار على إعطاء مسيحيي البلاد تصريحاً خاصاً بزيارة القدس وبيت لحم في أيام عيد الميلاد المجيد للشرقيين والغربيين. وكانت هذه فرصة للقاء الأهل والأقارب الذين اضطروا لمغادرة البلاد وصاروا لاجئين في كل من الأردن وسورية، وبالطبع في الضفة وغزة (قصص الكاتبة العكاوية سميرة عزام عن لقاءات الأحبة عند بوابة مندلباوم تعبر بشكل موجع وجميل عن الذي حصل).
كنا محظوظين لأنه كان لأمي أخت راهبة في دير البندكتيين الفرنسي على قمة جبل الزيتون في القدس، وهذا ما سهل حصولها على تصاريح سنة خلف سنة في العيد. وكانت تتركني وإخوتي في رعاية جدتي وتسافر لأسبوع تزور أختها والدير الذي كان منزلها الثاني لسنوات. لا أدري ماذا حصل عام 1966 والذي غيّر خطط والدتي السنوية، وقررت أن نصحبها أنا وأخي في رحلة الحجّ الى القدس.
بدأت الرحلة بكثير من الترقب والقلق والفرح، (نلت بسبب الرحلة شرف لبس أول معطف في حياتي وكان لأخي الأصغر مني)، حيث سافرنا منذ ساعات الفجر الأولى من حيفا إلى القدس عبر الطريق القديم الذي يمر بغور الأردن، وبخاصة مدينة بيسان المهجّرة. وصلنا بوابة "مندلباوم" حوالي العاشرة صباحاً، وكان الطقس ماطراً وبارداً، وأمامنا طابور طويل من الحجّاج ينتظرون دورهم لفحص التصاريح والجمارك، كنت في الثامنة من عمري ألبس معطفاً أحمر ولم اكن أعرف ان أمي وضعت في بطانته مصاري الناس اللي أوصوها على أطقم الشاي الصيني المذهبة، والقضامة والقمر دين وباقي حلويات القدس المميزة. لذلك لم أفهم توتر أمي خلال عبورنا تفتيش الجمارك وشدها المبالغ فيه على رصغي إلا بعد سنوات، حين سمعتها تحكي القصة لجارتنا.
بلا طولة سيرة، كل ما أذكره من القدس من تلك الرحلة الأولى إليها، أولا وحشة الدير وغموض ساكناته (هو دير محابيس راهباته لا يتكلمن) حين وصلنا إليه مساءً. لكن ما عوضني عن هذا الرعب كان أسواق القدس الممتدة من درحات باب العمود دخولاً إلى شارع خان الزيت وسوق العطارين، بهرني كطفلة تعيش بالخيال مدخل باب العمود بضخامة السور وبوابته الرهيبة، والأهم أقلام الرصاص الملونة والتي تزينها قبة ذهبية. لا أذكر من رحلة الحج الأولى أياً من الطقوس الدينية التي حضرتها بمرافقة أمي في الدير.
سألت أمي قبل فترة عن تفاصيل تلك الرحلة، وهل زرنا بيت لحم أو عمان، أمي أطال الله عمرها ما عاد لها صبر على اسئلتي اللحوحة ردت علي: "وبعدين معك بيكفي تبحبشي وتنكشي جروحي!" سكتت لاني تذكرت ان أمي تحمل أحلى وأصعب الذكريات من القدس التي أجبرت على ترك ديرها وهجر حلمها بأن تصير راهبة، لتتزوج من أبي ابن عمها. الدير الذي آواها طفلة مشردة من قرية قيساريا المهجرة، والذي امضت فيه أكثر من 8 سنوات لا تعرف عما حصل لكل عائلتها بعد حرب 48، وفقط بوساطة القنصلية الفرنسية في القدس، استطاعت التواصل مع أهلها الذين اجبروا على ترك قريتهم الساحلية قيسارية عام 48 وأقاموا في مدينة عكا لاجئين في الوطن، وبعد جهد جهيد استطاع أهل أمي إعادتها إليهم عبر بوابة "مندلباوم".
منذ انتهاء حرب حزيران 67 بدأت سلطات الاحتلال بتهويد القدس العربية.
وهذا ما أعرفه جيداً واشعر به في كل زيارة لي لشوراع القدس القديمة، ويؤلمني جداً، بخاصة إني افتقد معالم كانت موجودة منذ أيام طفولتي وتم هدمها او تشويهها ، لكن في كل زيارة أحاول ان اعود بذاكرتي لأول زيارة لي في كانون الأول/ ديسمبر 1966، والتي ما زالت حجارة السوق شاهدة على وقع خطواتي عليها، وأعرف أنه رغم كل المحاولات تبقى القدس قدسنا تحمل عبق أهلها ومن مروا في شوارعها وما زالوا يحملون في قلوبهم كل الحب لكل معالم الوطن، بما فيها القدس تماماً كحيفا، يافا، رام الله، غزة، أو صفد...
إقرأ أيضاً: الزيارة الأولى لمقابر حيفا
يبدو أنه تم الاتفاق بعد وقف إطلاق النار على إعطاء مسيحيي البلاد تصريحاً خاصاً بزيارة القدس وبيت لحم في أيام عيد الميلاد المجيد للشرقيين والغربيين. وكانت هذه فرصة للقاء الأهل والأقارب الذين اضطروا لمغادرة البلاد وصاروا لاجئين في كل من الأردن وسورية، وبالطبع في الضفة وغزة (قصص الكاتبة العكاوية سميرة عزام عن لقاءات الأحبة عند بوابة مندلباوم تعبر بشكل موجع وجميل عن الذي حصل).
كنا محظوظين لأنه كان لأمي أخت راهبة في دير البندكتيين الفرنسي على قمة جبل الزيتون في القدس، وهذا ما سهل حصولها على تصاريح سنة خلف سنة في العيد. وكانت تتركني وإخوتي في رعاية جدتي وتسافر لأسبوع تزور أختها والدير الذي كان منزلها الثاني لسنوات. لا أدري ماذا حصل عام 1966 والذي غيّر خطط والدتي السنوية، وقررت أن نصحبها أنا وأخي في رحلة الحجّ الى القدس.
بدأت الرحلة بكثير من الترقب والقلق والفرح، (نلت بسبب الرحلة شرف لبس أول معطف في حياتي وكان لأخي الأصغر مني)، حيث سافرنا منذ ساعات الفجر الأولى من حيفا إلى القدس عبر الطريق القديم الذي يمر بغور الأردن، وبخاصة مدينة بيسان المهجّرة. وصلنا بوابة "مندلباوم" حوالي العاشرة صباحاً، وكان الطقس ماطراً وبارداً، وأمامنا طابور طويل من الحجّاج ينتظرون دورهم لفحص التصاريح والجمارك، كنت في الثامنة من عمري ألبس معطفاً أحمر ولم اكن أعرف ان أمي وضعت في بطانته مصاري الناس اللي أوصوها على أطقم الشاي الصيني المذهبة، والقضامة والقمر دين وباقي حلويات القدس المميزة. لذلك لم أفهم توتر أمي خلال عبورنا تفتيش الجمارك وشدها المبالغ فيه على رصغي إلا بعد سنوات، حين سمعتها تحكي القصة لجارتنا.
بلا طولة سيرة، كل ما أذكره من القدس من تلك الرحلة الأولى إليها، أولا وحشة الدير وغموض ساكناته (هو دير محابيس راهباته لا يتكلمن) حين وصلنا إليه مساءً. لكن ما عوضني عن هذا الرعب كان أسواق القدس الممتدة من درحات باب العمود دخولاً إلى شارع خان الزيت وسوق العطارين، بهرني كطفلة تعيش بالخيال مدخل باب العمود بضخامة السور وبوابته الرهيبة، والأهم أقلام الرصاص الملونة والتي تزينها قبة ذهبية. لا أذكر من رحلة الحج الأولى أياً من الطقوس الدينية التي حضرتها بمرافقة أمي في الدير.
سألت أمي قبل فترة عن تفاصيل تلك الرحلة، وهل زرنا بيت لحم أو عمان، أمي أطال الله عمرها ما عاد لها صبر على اسئلتي اللحوحة ردت علي: "وبعدين معك بيكفي تبحبشي وتنكشي جروحي!" سكتت لاني تذكرت ان أمي تحمل أحلى وأصعب الذكريات من القدس التي أجبرت على ترك ديرها وهجر حلمها بأن تصير راهبة، لتتزوج من أبي ابن عمها. الدير الذي آواها طفلة مشردة من قرية قيساريا المهجرة، والذي امضت فيه أكثر من 8 سنوات لا تعرف عما حصل لكل عائلتها بعد حرب 48، وفقط بوساطة القنصلية الفرنسية في القدس، استطاعت التواصل مع أهلها الذين اجبروا على ترك قريتهم الساحلية قيسارية عام 48 وأقاموا في مدينة عكا لاجئين في الوطن، وبعد جهد جهيد استطاع أهل أمي إعادتها إليهم عبر بوابة "مندلباوم".
منذ انتهاء حرب حزيران 67 بدأت سلطات الاحتلال بتهويد القدس العربية.
وهذا ما أعرفه جيداً واشعر به في كل زيارة لي لشوراع القدس القديمة، ويؤلمني جداً، بخاصة إني افتقد معالم كانت موجودة منذ أيام طفولتي وتم هدمها او تشويهها ، لكن في كل زيارة أحاول ان اعود بذاكرتي لأول زيارة لي في كانون الأول/ ديسمبر 1966، والتي ما زالت حجارة السوق شاهدة على وقع خطواتي عليها، وأعرف أنه رغم كل المحاولات تبقى القدس قدسنا تحمل عبق أهلها ومن مروا في شوارعها وما زالوا يحملون في قلوبهم كل الحب لكل معالم الوطن، بما فيها القدس تماماً كحيفا، يافا، رام الله، غزة، أو صفد...
إقرأ أيضاً: الزيارة الأولى لمقابر حيفا