حكواتي: السّعادة

05 سبتمبر 2014
إزهار أغصان اللوز، فان غوغ (Getty)
+ الخط -

أجلس في الحافلة الصغيرة المتوجهة من منطقة شتورا نحو العاصمة بيروت بعد ظهر يوم الأحد. أتأمل الراكبين. يبدو التعب على ملامحنا جميعنا. ينهكنا مشوار الساعة ونصف هذا. نعبس في وجوه بعضنا. نقرف من رائحة العرق المنبعثة منا. نتأفف من رائحة الدخان. نغلق الشبابيك ونفتحها. نغفو ونستيقظ في "الفان" الصغير.
يستوقفني منظر السائق الشاب. لسبب لا نعرفه نحن الركاب، لا تفارق الابتسامة وجهه. تبدو تجاعيد خفيفة حول عينيه لتخبرنا أن كهولة ما تختبئ في مكان ما في الجسد الفتي. يشغل أغنية "إنت عمري" لأمّ كلثوم. لا يرانا. لا يسمعنا. يمضي الساعة المقبلة على النحو التالي:
أم كلثوم تغني وفرقتها تعزف والسائق الشاب يصفّر. لا يخرج لحظة عن الإيقاع. يبدو للحظة كأنّه هو الذي لحن الأغنية فعلاً. للحظة، بدا السائق الشاب كأنّه الرجل الأجمل على هذا الكوكب. للحظة، بدا السائق الشاب كأنه السعادة بعينها. سألت نفسي: ترى ما السعادة حقاً؟!

تشاهد أختي الصغيرة فيلماً كوميدياً. لا أشاهد الفيلم معها. أجلس في الغرفة المجاورة محاولة أن أنام. تصلني ضحكاتها. أبتسم. لا تغريني ضحكاتها بمشاهدة الفيلم، إنما البقاء هكذا حتى الصباح. هي هناك تشاهد فيلمها وتضحك، وأنا هنا، في الغرفة المجاورة، أسمع ضحكاتها وأبتسم. ضحكة أختي أكثر حقيقيّة من العالم أجمع. ضحكة أختي هي القرية، العائلة، والمنزل اﻷول. ضحكة أختي هي السعادة.
يشعل أبي سيجارته. يخبرني عن يده التي تؤلمه. يشتكي من المصروف الكثير والمدخول القليل. يستعيد ذكرياته بين قريتنا وصيدا وبيروت. يتذكر الحرب. يتذكر أصدقاءً قدامى. يتذكر حماسة الشباب التي يسميها "هَبَل" أخيراً. تدمع عيناه. أنظر إلى دموع أبي التي لا تنزل وأشعر أن الكون يجب أن يتوقف الآن.
فجأة، يذكرني أبي بطفولتي. يضحك عالياً على شقاوتي ثم يغني "البحر بيضحك ليه". ذكريات أبي، دموعه، آلامه، وضحكاته هي السعادة. تناقضات أبي هي السعادة.
تفكر أمّي في طبختها اليومية. تتلبك. تحاول أن تجد الخيار الذي يرضي الجميع. تتوتر من غير داعٍ. تفرح برؤيتنا حولها. تقبّل أخي فور دخوله إلى المنزل، ثم تقبّلنا جميعاً كي لا نغار. تفرح لأنها ستغسل ثيابي التي حملتها معي من بيروت. تتعب ولا تقول. لا تعرف أمي السعادة بمعزل عن سعادتنا. عفوية أمي هي السعادة.
يوقظني أخي في الصباح. يشتري لي الطعام الذي أحبه بمصروفه القليل. يسبقني إلى الحديقة حافياً. أتبعه. نجلس على مرجوحتنا العتيقة ونغني "بالله يا مجرى المي يابا سلم عليهم عليهم". لا يغادر أخي المنزل وأنا فيه. يسألني كل دقيقتين متى سأغادر. يشتاق إليّ أخي ولا يعرف أن يقول. خجل أخي هو السعادة.
السعادة هي كرم جدي، صلوات جدتي ودعواتها، عمّي يغني لي "مين حبيبي أنا"، صديقتي التي تشاركت وإياها السرير والطعام والثياب وفنجان القهوة، غمْزة الحبيب من دون أي سبب ومشوارنا الأول إلى البحر.
السعادة هي الكتب التي اشتريناها، ولم نقرأها بعد، والأغاني الخمس المفضلة التي لا نمل سماعها. السعادة هي السيجارة الأولى في عمر الثالثة عشر. السعادة هي حمامنا الساخن أيام الشتاء. السعادة هي الألف ليرة الأخيرة التي لا نصرفها. السعادة هي الأشخاص. هي جميع الذين أحببناهم، نحبّهم وسنحبّهم لاحقاً. نحن السعادة.

 
 

المساهمون