حكواتي: أعتذر... الشعر ليس مهنتي

23 مايو 2014
لا يقنع الموهوب بموهبة واحدة
+ الخط -
 

وضعتُ مقالتي على مكتبه كعادتي، وعلى غير عادته لم يقرأها باهتمام، ويشكر جهدي. اكتفى بالسطور الأولى، وقذف أوراقي في الهواء، واعتذر: لا يمكنني نشر هذا النص. تلقيتُ الصفّعة بهدوء، وقلت: أكملهُ أولا، وفسّرْ لماذا ترفضه؟.

صرخ: تريدين أن تكتبي عن الحبّ العذري، اجعليه حياً، سمّي حبيبك، صفيه، صفي مشاعركِ حين يأتي، وحين يغيب، لا تقتليه بتهويمات شعرية، لا معنى لها.

اكفهرّ وجهي، أشعلت سيجارتي، وقلت: أعتقد أنّ الحالة التي أقترحها، تفترض هذه اللغة، أحاسيس ضبابية، سرّية، معذّبة، تتناسل، وتتكرر لسنوات.

قال بتهكّم: ماذا تقصدين بشوارد الرغبة؟

وحاول أن يشرح لي معنى الشعرية، ولم يكن موفّقا على الإطلاق، حين استشهد بعبارة "قمر سمين".

صمتُّ صمتَ القبور، لكنّ عاصفة الغضب، بدأت تهز كياني، أستاذي الذي كنت أحسبه أنبل خلق الله وألطفهم وأفّهمهم، بان على حقيقته: فظّ، وقح، متسلّط، غبي ولا يفقه الشعر... كيف صار مدير أهم ملحق ثقافي في عاصمة الصحافة العربية؟

وحين انتهى دوامي، لم أتسكع كعادتي في شارع الحمرا، ولم أشرب الاسبرسو على مقاهي الرصيف. اتجهت فورا إلى منزلي، أغلقت بابي، ورحت أنتحب، أشدّ شعري، وأدقّ الأرض بقدمي، وكلّما هدأتُ قليلا، عاودني مشهد الصباح، وعدتُ إلى نحيبي. كيف استطاع أن يهينني؟ من يحسب نفسه؟ أنا أكتبُ الشعر مذ تعلمتُ الأبجدية، ولي ثلاث مجموعات شعرية، صحيح أنّها لم تحظَ بالانتباه، لأسباب أجلّها، لكنّ لقبي كشاعرة في بلدي، كان يسبق لقب الصحافية.

لم أنم طيلة الليل، وما إن طلع الصباح، حتّى اتخذت قراري بألا أعمل ثانية مع هذا الأستاذ. شربت قهوتي، ارتديت ملابسي على عجل، وأسرعت إلى الجريدة. فتحت الباب بعنف، ودخلت المكتب كالغولة، كانت عيناه غارقتين في الكومبيوتر، ومن غير أن يلتفت صوبي، قال: "مبكّرة اليوم، جبتيلي موضوع جديد؟".

لا، جئتُ أودعك، أجبتُ. رفع رأسه ثم حاجبيه، وبهدوء العارف جرّني إلى حوار رصين حول الشعر والكتابة الشعرية، جعل غضبي يخفت بالتدريج.

أعرف مديري منذ عام، وأحترم أخلاقه المهنية، يقرأ كلّ كلمة تصله بإمعان، يفرح بالنصّ الجميل، ولا يؤخّر نشّره، ويمزّق الرديء بلا تردّد. رجعت إلى منزلي، وضعت نظاراتي، وأعدت قراءة جميع قصائدي، لم أعثر إلا على بضع ومضات لطيفة، لا تتعدّى أصابع اليد.

لماذا كتبت مجموعاتي الشعرية، وأنفقت أموالي على طباعتها؟ هل لأنّني أحبّ الشعر، أم لأنّني أحبّ حالتي فيه، أم لأنّني أرى العالم بعيونه؟

مهما تكن أسبابي، فقد نجحت في الصحافة، وأخفقت في كتابة الشعر.

أذكر الامتقاع الذي كان يصيب وجوه من أثق بذائقتهم، حين أعرض عليهم قصائدي. أذكر خيبتي من تجاهل النقّاد لي، أو مرورهم العابر على اسمي، وأضحك. ما من مؤامرة كونية ضدّي، ببساطة الشعر ليس مهنتي، وأعتذر من القرّاء لأنّني كتبته. كنت كالعاشق العذري، يعيش الحبّ بروحه، ويعجز عن إدراك الحبيب، وكنت أحتاج إلى صدمة عنيفة، حتى أفيق من عواطفي ووهمي.

 

 

 

المساهمون