حكم الأغلبية يُقسِّم العراق

12 سبتمبر 2014

مع انهيار نظام صدام تفلتت الهويات الطائفية والإثنية (18يوليو/2008/Getty)

+ الخط -

شكل عام 2003 مع بدء الغزو الأميركي للعراق، وما تلاه، منطلقا لـ "الثورة" في العراق. ثورة عملية على صعيد النظام السياسي والدستوري. التغيرات التي شهدها العراق منذ 2003 طاولت شكل الدولة، لتتحول الدولة الموحدة المركزية إلى دولة فيدرالية. كما تناولت الدستور، لننتقل من دستورٍ مؤقتٍ، ينظم عمل السلطات بشكل ضيق، إلى دستور "دائم" يحدّد السلطات وعلاقاتها بشكل أوسع.

لعل التغيير الأكبر طرأ على القوى السياسية والطائفية التي تسلمت الحكم، لتتحول من أقليةٍ سنيةٍ حاكمة، إلى توافقيةٍ طائفيةٍ، يغلب عليها طابع الأكثرية الشيعية. مع انهيار نظام صدام حسين، تفلتت الهويات الطائفية والإثنية، باتجاه سعيها إلى حقوق سياسية، تعتبر أنها اغتصبت منها سنوات عديدة.

وقد عملت الأكثرية الشيعية للقبض على السلطة، انطلاقاً مما تعتبره حقاً لها، عبر نظامٍ يمكنها من عكس أكثريتها العددية في تركيبة النظام. وكان هدف الأكراد متناغماً مع نضالهم التاريخي، للحفاظ على وجودهم مجموعة متميزة، وتعزيز استقلالية إدارة شؤونهم. والوسيلة لتحقيق ذلك عبر نظام يحفظ استقلاليتهم، بمشاركة حقيقية في السلطة، فكان التركيز على النظام الفيدرالي خياراً أول.

أما العرب السنة، الحاكمون عشرات السنوات، فكانت نتيجة انهيار النظام عكسية بالنسبة لهم، فهم خسروا السلطة، ومعها موقعهم في تركيبة النظام، خصوصاً مع حل حزب البعث، البنية السياسية الأساسية لهم. وقد كانت طروحاتهم غائبة أو مغيبة، أو غير واضحة لمستقبل النظام السياسي، في ظل أداءٍ مرتبك تجاه المتغيرات الحاصلة.

جرى التحضير للخطوط العامة للنظام الجديد عبر مؤتمرات المعارضة العراقية، التي تحولت بعد عام 2003 إلى قوى حاكمة بحكم الأمر الواقع، ثم بتفويض سلطات الاحتلال، قبل أن تترسخ بآليات الانتخاب، إلا أن ما كان غير متفق عليه مسبقاً بين القوى العراقية، ولم يكن متوفراً لدى الولايات المتحدة، وهو آلية بناء النظام الجديد وكيفية تسليم السلطة إلى القوى العراقية، والمراحل التي يمكن أن يسلكها النظام الجديد.

جاءت خطط قيام النظام وليدة الظروف الناشئة، وبتأثير دور القوى السياسية والدينية المستجد. فكانت مرحلتان: المؤقتة منذ انهيار النظام حتى 28 يونيو/حزيران 2004، لتبدأ في هذا التاريخ المرحلة الانتقالية، حتى قيام أول حكومة على أساس الدستور الدائم في 20 مايو/أيار 2006، وبدء العراق مسيرة الدولة التعددية، بنظام اتحادي.

مرحلة التفاوض على النظام الجديد، وآليات عمله بينت سلسلة متغيرات متفاعلة في ما بينها. تعززت الهويات الخاصة للمجموعات، ليتم انطلاقاً منها تحديد مكونات النظام. كما أصبح موقع بعض رجال الدين، كالسيستاني، مركزياً في تحريك الأمور باتجاه أو آخر. وبرز بقوة مفهوم التوافق، أو الديمقراطية التوافقية، التي ترجمت في مناسبات متعددة محاصصةً طائفية في توزيع مواقع السلطة.

في الواقع، تحمل الفيدرالية العراقية ثلاث خصائص رئيسة، فهي متعددة القوميات، لامركزية، وتوافقية، وهي خصائص تجتمع عادة في الفيدراليات القائمة في المجتمعات التعددية، والتي يشكل المجتمع العراقي نموذجا منها.

جمع النظام العراقي بين مبادئ الفيدرالية ومبادئ التوافقية، ليتحدد بذلك إطار الفيدرالية التوافقية العراقية. ويشكل الاستقلال الذاتي مبدأً مشتركا للمفهومين، فيما تعتبر عناصر التوافقية الثلاثة الأخرى، الائتلاف الموسع، نسبية التمثيل، والفيتو المتبادل، إجابة على مبدأ المشاركة، أو تفصيلاً له.

أسس الفيدرالية أمنت الإطار الذي تستطيع المجموعات العراقية العمل من خلاله، فيما حققت قواعد التوافقية آليات اتخاذ القرار، ضمن هذا الإطار بما يضمن موقع كل منها. وركائز الفيدرالية واضحة في الدستور، بضغط من الأكراد. وضوابط التوافقية تغيب تدريجياً من الدستور، بضغط من الشيعة. الفيدرالية التوافقية العراقية في مسار متطور، غير ثابت، فمن الممكن أن تتحول إلى فيدرالية أكثرية، في حال غياب عناصر التوافقية. ولعل غياب الفيتو المتبادل بين المجموعات العراقية سيشكل أول معالم ضرب التوافقية، لكن ذلك سيشكل خطراً على شكل الدولة بأكملها.

خيارات الشيعة في هذه المرحلة تبدو واضحة، فالعمل يجري باتجاه المحافظة على المكتسبات، بالنسبة لحكم الأغلبية وتعزيزها. وعلى الرغم من تراجع دور المرجعية الشيعية، يبقى هذا الدور الأساس عند المنعطفات الكبرى. فهذه المرجعية تبقى حريصةً على ما حققه الشيعة، حيث يبقى العمل السياسي للشيعة حراً في إطار عام ترسمه المرجعية نفسها.

وتنطلق المجموعات العراقية الطائفية والإثنية من وعيها هوياتها الخاصة. هذا ما بدا واضحاً من اجتماعات المعارضة، مروراً بالمفاوضات التي أسست النظام الجديد. هذه الهويات كانت متجذرة لعقود، لكن القمع لم يسمح لها بالتعبير عن ذاتها السياسية تحديداً. تفلتت هذه الهويات، بعد عام 2003، وأصبحت المرتكز الأساسي لصنع التسويات، ولتعاطي المجموعات مع بعضها.

تسويات النظام الجديد صنعت في سنوات من المفاوضات بين قوى المعارضة. قد يكون صحيحاً أن كتابة الدستور تمت فعلياً في أشهر قليلة، ولكن، المؤكد أن المفاوضات بشأن مستقبل العراق كانت مستمرة خلال ثلاثة عشر عاماً. المبادئ العامة للتسويات وضعت قبل سنوات من كتابة الدستور، خصوصاً بالنسبة للاعتراف بالتعددية العراقية، وبحقوق كل مجموعة، كذلك بالنسبة للفيدرالية، كإطار يرعى هذه التعددية، والإسلام وموقعه في النظام الجديد.

بالفعل، كان للدور الأميركي تأثير كبير في توجيه الأحداث في العراق، ولكن، لم يصنع الأميركيون مستقبل العراقيين، بل ساهموا في تسهيل التسويات بين الأطراف العراقية. على الرغم من تركيزهم على هدف أساسي، هو منع قيام نظام إسلامي في العراق، علماً أن هذا الهدف كان مشتركاً مع قوى عراقية. وكان الإطار الشكلي للتسوية في قبضة الأميركيين، لجهة التوقيت والمواعيد، لكن مضمون التسوية كان غالباً في يد العراقيين، فآية الله علي السيستاني، مثلاً، فرض تغيير الخطط الأميركية، وقيام مرحلة انتقالية في العراق.

التسوية تمت بشكل فريد بين حكم الأغلبية الذي طالب به الشيعة، وحكم بالتوافق من خلال ضمانات للأقلية الذي سعى إليه الأكراد، لكن مصير هذه التسوية سيرتبط بتغييرات قد يدفع باتجاهها أحد الأطراف. ولعل هذه التسوية التي يجب متابعة حركتها، عبر السنوات، لمعرفة اتجاه النظام السياسي في العراق. فتعزيز هذه التسوية سيحافظ على عراق فيدرالي يرعى مصالح الجميع، وضرب هذه التسوية سيؤدي بالعراق إلى ثلاثة كيانات، معالمها واضحة، ولكن، غير مكتملة بفعل الإرادة المشتركة للمكونات الرئيسة في العراق.

التوازن يبقى دقيقاً بين المجموعات العراقية، والذي يترجم توازناً بين مفهومي حكم الأغلبية، والحكم بالتوافق. يمكن لأي من الأطراف أن يضغط لإيجاد قواعد وآليات عمل للنظام باتجاه تعزيز أي من المفهومين. ولكن، على كل مجموعة أن تدرك حدود هذا الضغط، خصوصاً الأغلبية الشيعية. فأي ضغط من الأغلبية باتجاه الأقليات سيدفع الأقليات للبحث عن ضماناتٍ قد تفرض صياغة جديدة للنظام.

عملياً، سيدفع غياب المصلحة المشتركة بين هذه المجموعات المشاريع الانفصالية إلى الواجهة، وهي مشاريع لا يبدو أي من الأطراف متحمساً لها بشكل جدي في هذه المرحلة، ما يعزز من استمرار العمل بقواعد الديمقراطية التوافقية.  لذلك، يبقى مستقبل العراق رهناً بقادة المجموعات، وبقدرتهم في المحافظة على نظامٍ، يرعى مصالحهم المشتركة بطريقة ديمقراطية.

فكما حدد أرنت ليبهارت، إن أبرز الشروط لاستمرار نجاح الديمقراطية التوافقية، هو إرادة قادة المجموعات في التعاون، بدل تعزيز الانقسامات بين هذه المجموعات. وهذا يتطلب حداً أدنى من الالتزام للحفاظ على وحدة البلد والالتزام بالقواعد الديمقراطية. كذلك، يتطلب الرغبة من هؤلاء القادة بالانخراط مع بعضهم، من منطلق الاستعداد للتعاون ولصنع التسويات.

وعلى الرغم من القواعد الدستورية التي حددت موقع السلطات العامة، وعلاقتها مع بعضها، إلا أن عمل هذه السلطات سيتأثر حكماً بقواعد النظام السياسي الجديد في العراق. سيبقى التوافق العنوان الأبرز في إدارة المجموعات شؤونها المشتركة. والفيتو المتبادل سيشكل العنصر الأساس في إدارة لعبة التوافق، سواء بالنصوص القانونية، أو من خارجها.

وسيؤدي أي ضرب للتوافقية العراقية حكماً إلى دولة كردية في الشمال، ومحافظات سنية تدور في فلك الأكثرية الشيعية، بانتظار انتظامها في إقليم سني، ما يعيد خلط الأوراق باتجاه كونفيدرالية طائفية – إثنية، يصعب تقدير إمكانية قابليتها للحياة في ظل التجاذبات الإقليمية.

1E16C5FF-4F4D-4396-8E65-0152AAD98B91
سليم فوزي زخّور

كاتب لبناني، وباحث في شؤون القانون الدستوري والأنظمة السياسية.