حكاية فيصل، حكاية سورية

03 مايو 2016
لوحة للفنانة الأميركية كاثرين حنان ملكي (Getty)
+ الخط -
ربما لن يكون "يسيرًا" على المتمرس في قراءة الوثائق التاريخية، كتابة الرواية. إذ إن اختلاف درجة اللغة بين التأريخ والسرد الروائي، ليس تفصيلًا نافلًا، حيث هي في التأريخ مباشرة صريحة مقيّدة بتتالي الأحداث، بينما هي في الرواية مطلقة الجناحين، إذ عليها أن تجذب القارئ بالأحابيل البلاغية، وأن تبني شخوصها بطريقة مقنعة، فضلًا عن ضرورة أن تكون بنيتها متماسكة صلدة.

تقول الوثيقة التاريخية إن الملك فيصل الأوّل ابن الشريف حسين، خرج في ظهيرة تموزية عام 1920 من دمشق صوب الكسوة، هناك ثمة محطة للقطار. كان ذلك بالطبع بعد معركة ميسلون، بعد إنذار غورو، بعد أحداث كبرى راحت تتجمع رويدًا رويدًا لتفضي إلى النتيجة التي تعلّمناها في كتب المدرسة؛ لا مملكة عربية، ولتبقَ وثائق مراسلات حسين - مكماهون أدنى إلى الخداع المدوّن. ها هنا أمرٌ جديد، ها هنا حدود جديدة واسم اتفاقٍ لن يمحى لسنين كثيرة: سايكس بيكو.
في الوثيقة التاريخية؛ تنقلات الملك فيصل من محطة إلى أخرى، من محطات الخط الحديدي الحجازي المتناثرة في المشرق، وسفرٌ أيضًا عبر البحار صوب باريس ولندن وغيرها.
الحوار شبه غائب في رواية الدكتور خالد زيادة ضيف ملحق الثقافة لهذا العدد: "حكاية فيصل". وحدها هواجس الملك فيصل وأفكاره المترددة تلتمع على سطح الرواية، لتأخذ الحيز كلّه. من هنا اختيار زيادة محطة القطار، شخصيةً رئيسة في الرواية. مكان الانتظار الأمثل، وترقب ما ستسفر عنه الرحلة من خذلان جديد. لحظات الملك في مقصورة القطار، بقطع النظر عن المحطة (فالمحطات كثيرة)، كانت وسيلة المؤرخ لبناء الرواية، ولرسم صورة تراجيدية للملك فيصل الأوّل. يبدو الملك الذي يقول في نفسه "غالبًا ما ضعت في متاهة الآراء المتناقضة وضجيج المتحاربين"، شكسبيريًا بامتياز، وهو يكتشف رويدًا رويدًا، محطةَ قطار فأخرى، اتفاق سايكس بيكو. ولعل اختيار المؤرخ لحياة فيصل ملكًا على سورية لا العراق (حكم العراق 13 عامًا)، وهذا التركيز على لحظات هزيمة تتسرب ببطء، لم يكن إلا طريقته لرواية كيف تنتقل الوثيقة "سايكس - بيكو"، من حبر على ورق إلى اتفاق كامل الأركان وقابل للتنفيذ.

وبكشفه لهذا الجانب من حياة الملك فيصل، وعلاقته بأبيه الشريف حسين أيضًا، ستبدو صورة الإنكليزي "لورنس العرب" باهتةً قاتمة، تحل محلها مثلًا الوثيقة التاريخية التي تبين ما معنى أن يكون الملك صاحب قول "الاستقلال يؤخذ ولا يعطى"، فاقدًا لكل قوة. السياسة توازن قوى، والملك فيصل في لحظته الشكسبيرية تلك، لم يكن يملك من القوة شيئاً.


ولأن الراوي مؤرخ قدير، سيفهم القارئ لمَا يعيشُ الملك ذو العينين الملونتين واللباس العربي في وجدان الناس، فاختيارات المؤرخ لعناصر الرواية تؤدّي إلى ذلك، وتؤدّي أيضًا إلى فهم أوفى لمعنى سايكس - بيكو وهو قيد التنفيذ. من دون طبل ولا زمر، ومن من دون بكائيات ولا مراث، نجح المؤرخ اللبناني بروايته "حكاية فيصل" في جعل تلك اللحظات في حياة الملك فيصل، لحظات شكسبيرية. وكيف لا؟ ونحن إلى اليوم ننظر إلى الخريطة في الكتب المدرسية، إلى الحدود "المصطنعة" بين الدول العربية ونؤلف، ونحن نحدق فيها، هوية واحدة. ألِفنا هوية بقيت مرسومة على الخريطة، ولا مفر من المقارنة مع ما يحدث اليوم، الهوية تتكسّر، والحدود بقيت مرسومة على الخريطة، أمّا في الواقع فقد تخلخلت وتحركت: ها هنا مذابح وتهجير داخلي، ها هنا قرىً تباد ومدن تتهدم، قيامة لا تنتهي.

الكل صوب ضحية وحيدة، يقتلها ويذبحها، وينكر عليها أن تسمى أصلًا ضحية. والأنكى وجود أكثر من رواية لتأريخ ما يحدث. والأفدح وجود ما لا يحصى من صنوف القتل ضد السوريين.

قتلى على مركبة تطوف بهم في بلدة سورية شمالية، قاتلٌ منتشٍ بجريمته، فيأبى إلا أن يوثقها بصورته مع القتلى على هاتفه المحمول، ثمّ يبثها على شبكات التواصل الاجتماعي. أهذه وثيقة تاريخية؟


أنقاض الأبنية الحلبية، والناس تنتشل الناس، كبارٌ ينتشلون أطفالًا من تحت الإسمنت، وطبيب الأطفال الأخير، قُتل في القصف. أهذه وثيقة تاريخية؟

صور وشرائط فيديو لا حصر لها، قد تكون وثيقة تاريخية، لكنها وهي تبثّ في لحظتها وحينها، تحاول شيئًا آخر. تحاول أن تقول من الضحية ومن الجلاد. لكن هذا العالم القاسي لا يريد أن يرانا نحن السوريين. عالم برمته تكالب علينا. ولحظتنا هذه، أبدنا القيامي، ودرب آلام لا نهاية له.






المساهمون