يشكل الجيش اللبناني حالةً فريدةً من نوعها، يؤيّده كلّ اللبنانيون، إن بالشّعارات أو الأغاني، أو بالحملات الدّعائية، أمّا عند الاختبارات المصيرية، يعيش اللبناني، أو بعض اللبنانيين لحظة تخلٍ، تخلٍ عن الشّعارات والأغاني، ويلتفّ كلٌ منهم حول جيش حزبه أو طائفته، الخاص.
"يعدّ الجيش اللبناني ثالث أقوى جيشٍ في لبنان"، هذه النّكتة يردّدها اللبنانيون دائماً؛ والتي بدورها تعبّر عن بعضٍ من أسفٍ على الجيش. تبنى الجيوش في بلدان العالم لحماية الحدود، صدّ الاعتداءات ومواجهة المخاطر الدّاهمة كالإرهاب مثلاً، في لبنان، أُجبر الجيش على لعب دور الإطفائي للاقتتال الدّاخلي، مساندة الأجهزة الأمنية الأخرى في ملاحقة الإرهابيين وعدّ الخروقات الخارجية للحدود، دون الرّد عليها بسبب غياب القرار السّياسي الذي يكبّله، مع أن الجيش وعلى قلّة معاركه، أثبت عناصره أنه جيشٌ قادرٌ على صون الحدود، لا الوقوف كحكمٍ بين الأحزاب والطّوائف المتقاتلة، وغالباً ما كان هو بعناصره وضبّاطه من يدفع الثّمن.
حرب لبنان الأهلية التي اندلعت في 13 أبريل/نيسان 1975، وما قبلها وبعدها من إرهابٍ إٍسرائيلي، أضعف الجيش اللبناني، وعرّضه للتقسيم، فتوزّع عناصره على المليشيات أثناء سنوات الاحتراب، ليكونوا كغيرهم، أدواتٍ تتصارع بها المحاور الإقليمية على الأرض اللبنانية، أما من بقي منهم، خاض حرباً سمّيت "بحرب الإلغاء" بين ميشيل عون، الذي كان قائداً للجيش من جهة، ومليشيا القوات اللبنانية بقيادة سمير جعجع من جهة أخرى، قبل أن يتدخل الجيش السّوري ويقصف قصر بعبدا، ليترك عون القصر، والجيش أيضاً، حيث حلّ الجيش السّوري مكانه لفترةٍ قاربت الأربع سنوات، أُعيد بعدها بناء الجيش على يدّ العماد إميل لحّود.
أن تكون مجاوراً للكيان الإسرائيلي، فهذا يعني أن جيشك يجب أن يكون ضعيفاً، تمنع القوى العالمية الجيش اللبناني من التّسلح بأسلحة دفاعية بهدف الحفاظ على التّفوق الإسرائيلي ميدانياً، فلا سلاح جوٍ في لبنان، ولا مضادّاتٍ جوّية، لا دبّابات ولا مدّفعية ثقيلة، واقعٌ دفع اللبنانيين الجنوبيين للتسلّح، بغية حماية أرضهم من الاعتداءات الإسرائيلية المتكرّرة، ومجازر العدو الإسرائيلي التي عانوا منها منذ الـ1948، في ظلّ غيابٍ تامٍ للجيش، وجد الجنوبي نفسه أمام خيارين، الرضوخ للاحتلال أو مقاومته، نشأت المقاومة الشّعبية اللبنانية على يد الإمام موسى الصّدر وبإشرافه، ونشأت مقاومة وطنية عمادها الأحزاب اليسارية بإشراف جورج حاوي ومحسن إبراهيم، لتظهر بعدها المقاومة الإسلامية – حزب الله في العام 1985، ويتفرد الحزب أوائل التّسعينيات بالعمل المقاوم، بعد انهيار المقاومات الأخرى بفعل الأزمات الإقليمية والعالمية، إلى أن تحرّر لبنان في العام 2000 من الاحتلال الإسرائيلي، مع وجود الوصاية السّورية عليه.
أما في العام 2004، بدأ الانقسام اللبناني حول سلاح المقاومة بعد صدور القرار 1559، والذي نزع صفة المقاومة عن حزب الله وألصق به صفة المليشيا، هنا وجد اللبنانيون، الشباب خاصةً، أنفسهم أمام خيارين، إمّا القبول بوجود هذه المليشيا أو التّسلح لمواجهتها وسلوك نهج آبائهم، وقود الحرب الأهلية السّابقة، ومع إيقاف خدمة العلم، أو التّجنيد الإجباري في الجيش بقرارٍ برلماني، عكف كل حزبٍ وتيارٍ على إنشاء جيشه الخاص، حتّى صار لكل حيّ مليشيا، أو مجموعة صغيرة من الشّباب المسلّح، يفتح اشتباكاتٍ مع جاره متى وكيفما أراد، حتّى فاق عدد الجولات القتالية بين شباب جبل محسن والتّبانة في طرابلس العشرين جولة.
وأثمر عمل السّياسيين اللبنانيين الدّؤوب على إضعاف الجيش لصالح مليشياتهم، شباباً جاهزاً لحمل السّلاح والدّفاع عن كلّ شيء إلّا وطنه وجيشه، علماً أن الجيش اللبناني بمفهوم اللبنانيين هو صمّام الأمان والمؤسسة الجامعة لكل الطّوائف، لكن، إذا ما دعم السّياسيون المؤسسة الجامعة للطوائف، أي الوطنية بمعنى آخر، كيف لمليشياتهم أن تنمو وتستمر؟ لذلك ألغيت خدمة العلم، واستبدلت بخدمة الزّعيم والحزب والطّائفة والمدينة والحيّ وحتى الأزقة.
استمرار الجيش اللبناني حتى اليوم، وقيامه بإنجازاتٍ، كالقضاء على فتح الإٍسلام، مواجهة العدو الإسرائيلي على الحدود وآخرها مواجهة العديسة البطولية، إضافةً إلى القضاء على ظاهرة أحمد الأسير ومجموعته شرق صيدا، كما القبض على العديد من الإرهابيين وإحباط مخطّطاتهم يعدّ معجزةً بلا شكّ، في وطنٍ مليشياته أقوى من جيشه، مليشياتٌ بعضها عابرٌ للحدود وبعضها عابرٌ بالأفكار نحو شرقٍ ظلامي، وبعضها وطنه حدود مدينته، يتشرذم الشباب اللبناني، بين مهاجرٍ أو منتظرٍ على أبواب السّفارات، ومساندٍ للجيش، يقدّم نفسه على مذبح وطنه، ليُنشد له الأناشيد ويُنسى كغيره من شهداء الجيش الذين سقطوا جرّاء معارك كان أهل السّياسة هم الأصل في اشتعالها، أو أقلّه، ليحصد الجيش نقمةً شعبية عليه بسبب قرارٍ سياسي غير مسؤول، يجد بعده الجيش نفسه في مواجهة مع الشّعب بدل حمايته.
(لبنان)