قبل نحو أربعين عاما، كان عباس حسن كاشور عضوا منتميا في تنظيم فلسطيني مقاوم، حين كانت المقاومة والجهاد الفلسطيني عملا سريا، وينتهج الكفاح المسلح وسيلة لمقاومة الاحتلال الإسرائيلي.
لم يكن عباس وحده المؤمن الواثق بصحة هذا النهج، بل كان يشاطره الانتماء ذاته ابن عمه بدوي عبد كاشور الذي ارتقى شهيدا لاحقا في رحلة كفاح مشتركة خاضها هذان المقاومان المقدسيان، انتهت أيضا بإصابة عباس بجروح خطيرة، تقطعت خلالها أصابع يديه، ليعتقل ويمضي في الأسر جريحا نحو خمس سنوات قبل أن يطلق سراحه في عام 1985 في صفقة التبادل الشهيرة، المعروفة بصفقة "أحمد جبريل".
استشهد ابن عمه بدوي، بينما كانا يجهزان معا عبوة ناسفة لاستخدامها ضد هدف احتلالي في القدس، أما عباس فكانت جراحه بالغة، ونقل من مكان الانفجار إلى سجنه ليواجه هناك صنوفا من التعذيب الجسدي والنفسي على أيدي جلاديه من محققي الاحتلال وضباطه. وكانت جراحه ألما مضافا إلى ما عاناه في السجن، وتركت تأثيراتها عليه بعد تحرره، وقبل أن يستقر ويكوّن عائلة وينجب أبناء، كان من بينهم يوسف؛ ابن العشرين عاما الذي نال الشهادة مطلع الأسبوع الجاري، خلال المواجهات مع قوات الاحتلال في بلدة أبو ديس جنوب شرق القدس المحتلة.
تقطن عائلة الشهيد، في حارة السعدية، أشهر حارات البلدة القديمة المعروفة بصلابة وقوة شبابها في مقاومة الاحتلال. وكانت عائلة كاشور المنحدرة أساسا من بلدة دورا بمحافظة الخليل جنوب الضفة الغربية، قدمت شهداء وجرحى وأسرى على مدى سنوات النضال الفلسطيني، كان من بينهم شهيد مجزرة الأقصى الأولى في عام 1990 الشهيد عبد الرحمن كاشور لاعب الكاراتيه المحترف، ومن الأسرى كان عمه أكرم وأبناء عمه، وأشقاء ابن عمه الشهيد.
في بيت العزاء في مسجد المئذنة الحمراء بحارة السعدية في بلدة القدس القديمة، كان والد الشهيد مع أبناء عمومته وأقربائه، يستذكرون الفتى اليافع الذي نال الشهادة مبكرا، التي شارف والده عباس على نيلها قبل نحو أربعين عاما، إلا أن القدر أبقاه حيا، ليشهد ارتقاء أحب أبنائه إلى قلبه شهيدا، فنال الشرف الكبير، كما سبقه إلى نيله بدوي وعبد الرحمن كاشور.
في ذلك اليوم، كما يروي والده، خرج يوسف دون أن يخطر أحدا بوجهته، كان شديد التأثر بما يجري في القدس خاصة في حارته، وفي بلدته القديمة، وفي المسجد الأقصى، وهي أمكنة ترتبط بكل تفاصيلها بحياته اليومية، حيث الحارة موطنه الصغير، والبلدة القديمة مدينته المفضلة، أما المسجد الأقصى، فكان قبلته الأولى يمضي فيه الوقت حين الفراغ ودونه، وخاصة في رمضان.
يضيف والده: "قبل ذلك بيوم حضر إلى البيت مكتئبا حزينا، وكان واضحا عليه بكاؤه وتأثره بارتقاء رفيق دربه الشهيد محمد لافي، بعد أن شارك في جنازته، وقبّل رأس الشهيد وهو يبكي، وعبثا حاولنا أن نخفف من حزنه على رحيل صديقه، إلى أن حضر يوم استشهاده. ولم نكن نعرف عنه شيئا، حتى جاءنا خبر بأن يوسف أصيب ونقل إلى المستشفى. سارعنا على الفور إلى المشفى، لنكتشف أنه مصاب بجروح بالغة، وكان في حالة غياب كامل. طالت ساعات الانتظار والقلق والترقب حتى مضى وارتقى شهيدا، وكان لا بد أن نسلم بالقدر المكتوب".
— علي المغربي (@alimograby85) ٢٢ يوليو، ٢٠١٧ " style="color:#fff;" class="twitter-post-link" target="_blank">Twitter Post
|
يوسف هو آخر العنقود من بين إخوته، وثالثهم بعد عبادة وسراج. قال والده وهو يمسح الدمع من عينيه: "كان أحب الناس إلى قلبي، رحمه الله وأحسن إليه ولا حول ولا قوة إلا بالله".
كان الحزن في بيت العزاء سيد الموقف، وكان من حضر يتحدث عن يوسف وعن شجاعته وجرأته وعن حبه للأقصى، وهو بالنسبة إليهم بطل وشهيد حي. قال ابن عمه وسام كاشور: "الشهداء أحياء. ويوسف منهم إن شاء الله. سبق أن قدمت عائلتنا شهداء وأسرى وجرحى، وربما يوسف ليس آخر الشهداء لا أحد يدري. طالما أن هناك احتلالا فكل عائلة هنا يمكن أن تودع من أبنائها وأربابها شهداء".
في لحظة الحزن والفاجعة، لم يكتف الاحتلال بقتل يوسف، بل حضروا إلى بيت العزاء واعتقلوا والده. قالوا للعائلة: "نريده عشر دقائق وسيعود". مضت نحو ست ساعات في تحقيق عن كل صغيرة وكبيرة تتعلق بالشهيد وأسرته، وحين عاد إلى بيت العزاء كانت جموع حاشدة من المواطنين في انتظاره تشد على يديه، وتترحم على نجله الشهيد لترفع من معنوياته، في حين كان يتأمل الوجوه بصمت، كأنه يبحث بينهم عن يوسف.
ولأن للحزن والفاجعة شركاء، كتب والد الشهيد بهاء عليان إلى رفيق دربه والد الشهيد يوسف يقول: "إلى والد الشهيد يوسف كاشور رفيق في الأسر والثكل: رفيقي عباس كاشور، سأحتضنك مساء اليوم، بعد الصلاة على الإسفلت، تسندك كتفي، تسندني كتفك، رفيق الزنزانة كنت، رفيق الثكل أصبحت، والكتف ما زالت تسند الكتف، أتدري يا رفيق قوية هي الكتف، تحمل ما تنوء به الجبال، الكتف أقوى من الوجع، الكتف أقوى من الجبال".