حكاية أمّ في غزّة: أنا وأولادي الأربعة في العراء

10 يوليو 2014
قصف غزّة (تصوير خالد حسن / Getty)
+ الخط -
لم أكن أعرف معنى كلمة "العراء"، وكيف يمكن أن يعيش أحدهم "في العراء"، إلا حين عشت تلك اللحظة. وجدت نفسي مع أولادي الأربعة بلا منزل، بعد صاروخ تحذيري ضرب بيت الجيران، قاصدا أنّ البيت سيُقصَف خلال دقائق.

وجارنا قيادي بارز في حركة "حماس". يعمل أستاذا في الجامعة الإسلامية بغزّة، ويدير مؤسسات خيرية عدّة تدعمها "حماس". وهو استعدّ وأعدّ العدّة للهرب من بيته في أيّ لحظة. لذلك كان ابني في الشرفة بعدما استيقظ من نوم مؤرق، وصاح من هناك: "ماما، جارنا الدكتور بيهرب من بيته هو وولاده ومعه شنط كثيرة".
تلا كلام ابني إطلاق صاروخ تحذيري نحو الفيلا الفاخرة. فتعالت صرخات الجيران وهم يهربون من بيوتهم. وكان عليّ أن أهرب دون استعداد... لكن إلى أين؟
صرت أركض كالمجانين في أنحاء البيت، وأنادي على أسماء أولادي الأربعة. أريدهم أن يستيقظوا. وفي لحظة تجمّعوا حولي. فلففتُ شعري بأوّل غطاء رأس صادفته، وسحبت حقيبة يدي من أمام المرآة ونزلنا الدرج. إذ تقع شقتي في الطبقة الثانية.

"في العراء"، تلفّتنا حولنا. فعرفت معنى ألا يكون هناك أيّ مكان آمن تذهب إليه: "أين نذهب؟"، بكت ابنتي وصاحت: "وين نروح؟".
فكّرت سريعا أنّ بيني وبين بيت أبي مسيرة ساعتين. كان يمكن أن أسير على قدميّ. لو كان هناك بعض الأمان في الشوارع، التي من نار. فطردتُ هذا الخاطر سريعا من رأسي وقرّرت أن أتّصل بصديقتي. ليأتيني صوتها باكيا قبل أن أطرح عليها فكرة استقبالي. كانت تصرخ: "وين أروح؟ بدهم يقصفوا بيت جيراني".

 أغلقت الهاتف ومشيت سريعا أنا وأولادي حتّى تجاوزنا البيت المهدّد بالقصف. واستمرّ مسيرنا لنصف ساعة كنّا نصادف خلالها كثيرين حالهم مثل حالنا. كلّهم يسيرون بلا هدف. فكّرنا أن نحتمي بالمسجد، لكنّ ابني ذكرني أنّ بيوت الله قد تعرّضت للقصف خلال الأيام الماضية. ولم يعد لدينا أيّ فكرة أو مقترح سوى أن نسير على غير هدى في الطرق الخالية، وأن نحتمي بالبيوت ولافتات الشوارع ونتحاشى السير في الشوارع المفتوحة، ونسير في أزقّة. إلى أنّ وجدنا أنفسنا داخل المخيم. رغم أنّ بيتي يبعد كثيرا عن المخيم.
أمام أحد بيوت المخيم توقّفنا. ألقيت نظرة على أولادي الأربعة، وقد كانوا في هيئة مزرية، وكلّ واحد من الكبيرين يمسك بيده هاتفه النقّال، ويعلّق في رقبته جهاز "اللاب توب" الخاصّ به. أما الولدان الصغيران فيحمل كلّ منهما حقيبته المدرسية التي تضمّ لوحات رسمها استعدادا لمعرض فنيّ خاصّ بالأطفال كان من المقرّر أن يشارك فيه بعد أيّام.

وكانت حقيبتي تضمّ أوراقنا الثبوتية وأدويتي اليومية الخاصّة وخاتم زواج أمي، رحمها الله، الذي تركته لي ورحلت قبل أعوام.
بعد ساعتين تناقل المارّة خبر قصف بيت الجيران. فقرّرنا العودة. إذ إنّ هذا الخبر يعني هدوءاً سيعمّ منطقتنا إلى أن تقرّر طائرات الاحتلال قصف بيت جارنا الآخر، وهو قياديّ في حركة الجهاد الإسلامي.

إلى بيتنا الصغير عدنا وقد تركناه مشرّع الأبواب والنوافذ. فسارع ابني إلى التلفزيون ليستمع إلى نشرة الأخبار. فجاءنا تصريح نائب وزير الدفاع الصهيوني: "لن يهدأ لنا بال حتّى يصبح كلّ سكّان غزّة في الشوارع".
على أريكة تهالكتُ وبكيتُ وبكى أولادي الأربعة بدورهم، وهم يفكّرون أنّ ما حدث سيتكرّر ثانية، وربما في المرّة الثانية لن يكون أمامنا أيّ فرصة للهرب.

المساهمون