حكاية أبي سعد الهروي

23 مارس 2015
+ الخط -

ليس العرب هم الذين يلتفتون إلى ما تقوم به إسرائيل من استيطان محموم، يسابق الزمن، في القدس وسائر الضفة الغربية، بل الأوروبيون، وربما الأميركيون. فالعرب، العاربة اليوم، منهمكون في الإجهاز على ما تبقى من أنفاس ربيعهم المغدور، وإعادة بناء حظائر الطاعة التي تهدَّمت، هنا وهناك، بأسوار صينية. الأوروبيون هم الذين أصدروا آخر تقرير مهم عن وضع مدينة القدس في ظل الاحتلال الإسرائيلي، وعمليات الإذلال الممنهجة ضد من تبقى من سكانها المتشبّثين ببيوتهم الآيلة للسقوط بالنواجذ. ويبدو أنَّ هذا التقرير الأوروبي الرسمي قد راق لواشنطن التي سرَّبته إلى وسائل إعلامها، في إطار عملية الشدّ والجذب بينها وبين نتنياهو. وهذه، على ما أعلم، سابقة أميركية، قد تلحقها سوابق أخرى، قبل أن يلمّ باراك أوباما حوائجه ومتعلقاته الشخصية، ويخرج من البيت الأبيض. يقول التقرير إن القدس لم تبلغ يوماً هذا الحدَّ من الاستقطاب والعنف والتوتر، حتى في الفترة التي وقعت فيها الانتفاضة الفلسطينية الثانية، بسبب اقتحام شارون الأقصى. هذا طبعاً نعرفه. ونعرف أن المقدسيين، من تبقَّى منهم بالأحرى، لم يعد لديهم ما يخسرونه. ومن يكن هكذا يفعل أي شيء. وقد رأينا أشكالاً مبتكرة من المقاومة، منها الدهس بالسيارات. وقد نُفاجأ غداً بما لم نكن نحسب. الجديد في تقرير الاتحاد الأوروبي، المُسرَّب، أنه يطالب الدول الأوروبية بسنِّ عقوبات ضد إسرائيل، خصوصا لجهة حملة استيطانها المسعورة في مناطق تعتبرها أوروبا، والمجتمع الدولي، محتلة، ولا يجوز خلق وقائع فيها "تعيق الحل".
لكن، ما لم أقرأه في التقرير الأوروبي، وإن كان متضمناً في دلالاته، هو ما جاءت به مراكز البحوث والدراسات الفلسطينية التي أكدت أن العام المنصرم كان الأسوأ على "مدينة السلام" من خلال الوقائع التالية: فقد شنَّ المستوطنون 290 اعتداءً على المدينة. هدمت سلطات الاحتلال 96 منزلاً، صادقت على بناء 2610 وحدات استيطانية في "جفعات هماتوس" و 500 وحدة استيطانية في "رامات شلومو"، طرحت مناقصات لبناء 2239 وحدة استيطانية على النحو التالي: ألف وحدة في "راموت شلومو"، 294 في "راموت"، 182 وحدة في "بسغات زئيف"، 56 وحدة في النبي يعقوب، 708 وحدة في جيلو.  
وعلى الرغم من كل إجراءات التجريف السكاني ضد المقدسيين التي تهدف إلى الإيفاء بتعهد إسرائيلي قديم، يقضي بألا يزيد عدد الفلسطينيين في مدينة الإله سالم الكنعاني على 22 في المائة، فإن المقدسيين يتزايدون، عددياً، بحيث أنهم أحبطوا هذا المسعى الإسرائيلي حتى الآن، وفق ما قاله خليل تفكجي، مدير الخرائط في بيت الشرق المقدسي.
تحدثت، في بداية مقالتي هذه، عن العرب، الرسميين، وانصرافهم عما يجري في القدس التي يتشدَّقون بقدسيتها كلاماً فقط، وذكّرني ذلك بحكاية قرأتها في كتاب لأمين معلوف عن قاضي دمشق، أبي سعد الهروي، الذي جاءه وفد من النازحين الفلسطينيين من القدس، بعد دخول الصليبيين إليها، وإجرائهم الدماء في شوارعها، كما تقول الكتب القديمة، حتى الرُّكب. قرر القاضي الهروي أن يذهب، والوفد الفلسطيني، إلى الخليفة العباسي في بغداد، فلم يستطع مقابلته، إلا بعد لأي، وبعد هذا اللأي، لم يأخذ منه إلا الكلام. فقرر أن يستثير نخوة البغداديين. طلب الخطبة في أحد جوامعها، وكان ذلك في يوم من أيام رمضان. صعد قاضي دمشق المنبر، وبيده صُرَّة. جال بصره في المصلين، وبدل أن يبدأ الخطبة فتح صرته وأخرج خبزاً وأكله على مرأى من جموع المصلين المبهوتين. سرت همهمات، وعلت أصوات استنكار، ثم هاج المصلون، وماجوا، فتنحنح القاضي الهروي، وقال لهم ما معناه، ويحكم تهيجون وتموجون لإفطار رجل في رمضان، فيما لا تحركون ساكناً حيال سقوط قبلتكم الأولى!


 

E7B23353-660D-472F-8CF3-11E46785FF04
أمجد ناصر

شاعر وكاتب وصحفي من الأردن