أسطورة أم حقيقة، قصّة "الجان" في داخل أروقة البرلمان السوداني؟ هذا البرلمان الذي شُيّد في العاصمة الخرطوم فوق المدافن والسجن العسكري في عهد الرئيس الأسبق محمد جعفر النميري، في الفترة الممتدة من العام 1974 وحتى العام 1976، وذلك بقرض جزئي من رومانيا وبتنفيذ روماني أيضاً.
ويأتي تصميم البرلمان الذي يطلّ على النيل في أم درمان، مطابقاً لهندسة الكنيست الإسرائيلي من حيث المبنى والتصوّر والتقسيمات. فالرومانيّون ارتأوا تنفيذ التصميم ذاته الذي كانوا قد وضعوه للكنيست الإسرائيلي، إذ كان جاهزاً ولا يتطلّب أي تكاليف ماليّة. والجانب السوداني لم يعترض في حينها على الأمر، باعتبار أنه تصميم أعدّه الرومانيّون ولا علاقة لإسرائيل به ولا بتنفيذه على الأرض.
ويروي عاملون في البرلمان رافقوا النواب المتعاقبين عليه، قصصاً وحكايات عن "شياطين" في داخل المجلس الوطني تظهر أحياناً لبعض منهم بهيئة بشر وتحدّثهم. وعندما تختفي، يكتشف هؤلاء أن محدّثيهم من الجنّ. أما عاملون آخرون فيرون في تلك القصص ضرباً من ضروب الخيال، إذ ترتبط بالأرض التي شيّد عليها المبنى والتي تضمّ مدافن تحتوي رفات أموات كثيرين من حقبات مختلفة. إلى هؤلاء فريق ثالث يربط ما بين السجن العسكري الذي شُيّد مبنى البرلمان على مساحة منه وبين الإعدامات التي كانت تنفّذ فيه بحق عسكريّين، خصوصاً أن روايات تتحدّث عن العثور على بئر ومشانق في داخل السجن أثناء تشييد المبنى. فترتبط القضيّة برمّتها بالأرواح الشريرة.
وتتعدّد الحكايات
في كل يوم قصّة جديدة. ويقسم البعض أن القصص التي يروونها وقعت بالفعل وكانوا شهوداً عليها بأنفسهم. قصص عن شياطين تتحرّك في البرلمان وتقيم الأفراح وتطهو الطعام الذي يشتمون رائحته فقط. ويخبر أحد موظفي البرلمان أنه تفاجأ وزملاء له في أحد الأيام عندما فُتح باب المكتب عليهم من دون أن يروا أحداً، وخُلعت من ثمّ نظارات الجالس بقربه ووضعت على الطاولة، كأن شبحاً ما قام بذلك.
وقد أدخلت هذه القصص الرعب في نفوس عدد من الذي يتردّدون على البرلمان إلى جانب عدد من الصحافيّين الذين يداومون فيه لتغطية أنشطة المجلس الوطني بشكل يومي. ويؤكد هؤلاء أنهم عادة ما يصابون بالذعر، ويخشون التواجد بمفردهم في الأجزاء الغائرة من البرلمان، خصوصاً أنه يعدّ مبنى معقّداً وفيه الكثير من الدهاليز. وتقول هنا الصحافيّة السودانيّة سميّة نديم إنها تخشى عادة التوجّه إلى القاعة المخصّصة للصحافيّين لمتابعة الجلسة بمفردها. وهذه القاعة تقع في الطابق العلوي.
وتخبر نديم "أتردّد على البرلمان منذ نحو عشر سنوات ولم أصادف يوماً طيف شيطان، ولكنني أشعر عادة بحركات غريبة على الشرفات -الأماكن المخصّصة للصحافيّين- وأحياناً أسمع أصوات خطوات خلفي. وما إن ألتفت صوبها، لا أجد شيئاً". تضيف: "قد يكون الأمر مجرّد تهيؤات بسبب القصص التي أسمعها". وتشير إلى أنها استمعت إلى عدد من روايات موظفي البرلمان والنواب، يؤكدون أنهم عادة ما يسمعون أصوات الموسيقى الصاخبة والطبول في داخل أروقة البرلمان، إلى جانب ما يصدر عن الطقوس الخاصة بحفلات الزواج السوداني، بالإضافة إلى أصوات أشباح.
ويدعم أحد موظفي البرلمان، الذي فضّل عدم الكشف عن هويّته، بقوّة آراء الذين يؤكدون وجود الجان في المبنى. ويروي أنه كانت له خبرة شخصيّة، إذ أطفِئ في أحد الأيام جهاز الكمبيوتر الذي كان يعمل عليه فجأة، وراح يسمع أصوات دبابيس تلقى في الطفاية أمامه. ويلفت إلى أنه يشاهد عادة أشباحاً سوداء تتنقل في أروقة البرلمان.
وتروي موظفة أخرى أن زائرة أخبرتها بأنها ضلّت طريقها في داخل مبنى البرلمان، فأعانها صبيّ لفتت ثيابه انتباهها، إذ كان يرتدي ملابس بيت. وما إن همّت بسؤاله عن والده، حتى اختفى كلياً من أمامها وكأنه تبخّر.
ومسألة الشياطين منتشرة حتى بين مسؤولين حكوميّين يتردّدون على البرلمان. فمساعد رئيس الجمهوريّة السابق، رئيس كتلة حزب المؤتمر الوطني الحاكم في البرلمان المقال غازي صلاح الدين، قال لصحافيّي البرلمان في جلسة سابقة معهم عند تسلمّه مكتب الكتلة في الطابق العلوي، إنه سيستقبلهم في مكتبه بعد أن يطرد الشياطين منه. وأخبرهم أنه عندما يحضر إلى دوامه يجد أن الشياطين عبثوا به وغيّروا أماكن الطاولات.
لكن أحمد الخير أحمد وهو موظف في البرلمان منذ 18 عاماً، يقول: "على الرغم من القصص الخاصة بالجان التي أسمعها، إلا أنني لم أصادف الجان إطلاقاً، مع أنني أبقى في البرلمان لساعة متأخرة من الليل". يضيف: "أنا أعتبر ذلك ضرباً من ضروب الخيال".
ضريح في البرلمان
وقد تكون لتلك الحكايات علاقة بضريح أحد رجالات الطرق الصوفيّة في السودان، الذي له أتباع ومريدون ويدعى البرود بتول. فعندما تقرّر تشييد مبنى البرلمان، حدث جدال كبير في ما يخصّ نقل رفاته، وقد أقام مريدوه حول ضريحه سياجاً وحاولوا حمايته من خطر الزحف البنياني.
فاستعان الرئيس السوداني آنذاك، النميري، بزعيم أنصار السنّة السلفيّين أبو زيد محمد حمزة لنقل الرفات، وذلك للحدّ من حركة أتباعه الذين يزورونه للتبرّك بقبره. وكان هؤلاء قد اعتادوا إقامة الذبائح و"النوبه" وهو طقس صوفي يعزف خلاله على الطبل. وما زال مريدوه يؤكدون أن جميع الجهود فشلت لنقل رفاته وأن روحه ما زالت في المكان. ويروي أحدهم أن "موظفة في البرلمان سخرت من حقيقة وجود رفاته في قبره في حديقة البرلمان، فغطست إحدى رجلَيها في الطين وقد تمّ انتشالها بمجهود كبير وفقدت حذاءها. وهذا يؤكد أن الشيخ انتقم لنفسه منها".
رأي علم النفس
وفي هذا الإطار يقول الاختصاصي في علم النفس، نصر الدين إدريس الدومة، إن الجان أو الشياطين موجودة في الواقع، إلا أن الإنسان لا يستطيع رؤيتها، وذلك لحكمة لدى الله وحده. ويشير إلى أن الحديث عن قوّة خفيّة تلازم منطقة محدّدة، يحتاج إلى التحقّق منه وتأكيده. ويوضح أن موقع البرلمان قديم الوجود، لذا فإن أي ظاهرة مرتبطة بالجان فيه، إنما تشير بجزء منها إلى ما يتعلّق بالشائعات ومدى قدرة نمط الشخصيّة المعنيّة على قبول الإيحاء والتصديق، وقبول وضع محدّد من دون التركيز عليه، الأمر الذي يقود إلى التهيؤات.
ويشرح: "عندما يكون شخص ما في مكان معيّن بمفرده ومع جملة معلومات حول حادث محدّد سبق وحدث، ومع سرعة في عمل العقل الباطن والخيال، فإن الهواء قد يغلق باب المكتب. وهنا يتهيأ له أن قوة خفيّة هي التي فعلت ذلك بحسب التراكمات التي لديه".
ويؤكد الدومة هنا على أن ما يدعم ذلك الاتجاه، هو المعلومات التي تمّ تداولها بشأن الموقع الذي شيّد عليه البرلمان والذي كان يضمّ مدافنَ، وارتباط ذلك بالثقافة والعادات والتقاليد، بالإضافة إلى انتقال القصص والحكايات الخاصة بالجان تحت قبّة البرلمان من جيل إلى آخر مع إضافات.