حكايات طبيب سوري

21 يوليو 2015
الجميع في هولندا يركب الدراجات الهوائية (Getty)
+ الخط -
البعد عن سورية والعمل والأصدقاء دفعوا الطبيب السوري اللاجئ في هولندا سليم بشارة إلى تدوين مشاهداته هناك حيث يقيم مع عائلته الصغيرة. مشاهدات تجتذب منذ أكثر من سنة العديد من المتابعين. يتناول بشارة أحداثاً يومية يصطدم بها كل سوري في المجتمع الأوروبي الجديد. وبالنسبة إليه، فإنّ نشرها على فيسبوك يشكل "طريقة جديدة للقاء وتبادل الأفكار ووجهات النظر مع الأصدقاء والمعارف، بعدما بعثرتهم الحرب وبات اللقاء الحقيقي صعب المنال". يعتبرها بحثاً عن الجدوى، وطريقة للبوح، ومحاولة فهم ما يتعسّر على السوريين إدراكه والتعبير عنه.. كذلك، هي مساحة لخوض الحوارات اللازمة بعد الانتقال من مجتمع ضيق يمنع كلّ شيء فيه تقريباً إلى رحاب العولمة بما لها وما عليها.

بشارة من أبٍ جولاني وأم حمصية، عمل كطبيب مخبري على مدى أكثر من عشرين عاماً في حلب، شمال سورية. غادر البلاد الغارقة في الحرب عندما لم يعد البقاء ممكناً، في ظل عمليات الاعتقال والخطف والتصفية. لبنان كان محطته الانتقالية مع أبنائه، بانتظار حصولهم على حق لم الشمل مع زوجته. وصل إلى هولندا بشكل قانوني ومن دون كلفة زائدة، بخلاف الكثير من اللاجئين السوريين فيها.

يتفاءل الطبيب بقدرة اللاجئ على أن يكون فاعلاً في مجتمعات اللجوء، فتلك المجتمعات تتيح لهم ذلك في تخطيطها وإمكانياتها الكبيرة. ويجد أنّ الخسارة الكبرى للاجئ تكمن في صعوبة احتلاله لموقعه الوظيفي والاجتماعي الذي كان يشغله في بلده الأم، خصوصاً أنّ أصحاب المؤهلات العلمية العالية يفقدون القدرة على التميّز في مجتمع يعج بالمهارات وأصحاب الكفاءات التي لن يستطيعوا مجاراتها، بسبب حواجز إتقان اللغة والمصطلحات والإلمام بالأنظمة والثقافة الاجتماعية. فيخسر هؤلاء فرصة الاستفادة من إمكانياتهم في المجتمع الجديد.

وبالرغم مما يشكله الانتقال إلى هولندا من مكسب حضاري يعوّض السوريين بعضاً من الخسارات الكبيرة التي لحقت بهم، ما زال معظمهم يعيش في إطار أحداث سورية وأوجاعها. فبشارة غادر سورية ولم تغادره. في السوبرماركت يشتري بعض الحاجيات لكنّه يشرد بأحداث حلب وعين العرب وغيرها. وفي أوقات أخرى لا يتمكن من الاسترخاء.. فالأوجاع السورية كلها تلعلع في رأسه.

يلفته التحوّل في العلاقات الاجتماعية، والفوارق بين الهولنديين والسوريين في هذا الشأن. فالهولنديون حددوا يوماً ليعانقوا فيه بعضهم البعض من أجل مزيد من الدفء في علاقاتهم. أما بشارة فيقترح عليه فيسبوك صداقة شخص يعرف أنّه توفي منذ مدة قصيرة. وفي اليوم نفسه يختصم مع صديقين، ما يدفعه للتساؤل: "كيف لنا أن نتعانق وما زالت في أيدينا سكاكين"؟
يحتفظ السوريون في ذاكرتهم بتلك الصورة النمطية عن الشرطة، التي تلعب فيها دور المدافع عن السلطة لا عن المواطن. أما في هولندا فدورها مختلف يقوم على حلّ النزاعات بهدوء. فبعد نشوب شجار بين شبان وحضور الشرطة على الدراجات الهوائية إلى المكان، يتوقف المتشاجرون وحدهم عن الشجار ويذهب عناصر الشرطة مجدداً من دون اعتقال أحد.

أما الدفاع المدني الهولندي فدوره توعوي في بلاد لا حرب فيها. ففي أحد الأيام استيقظ بشارة على صوت صفارات الحريق، ليدرك بعدها بقليل أنه يوم الأطفال في المدينة. وفيه ينصب الدفاع المدني دمى مطاطية عملاقة ويقيم عرضاً للسيارات الحكومية ليشاهدهم الأطفال ويشعروا بالامتنان والألفة تجاههم.

في هولندا، يعيش بشارة تجربة الدراسة مجدداً. فالدولة تفرض على اللاجئين دورة في اللغة الهولندية تمهيداً لدمجهم في المجتمع. في يومه الدراسي الأول وصل متأخراً خمس دقائق، وكان مدير المركز ومديرة دروس اللغة الهولندية بانتظاره عند المدخل. اعتذر بالإنجليزية على تأخّره فأجاباه بما لم يفهمه، وساقاه إلى غرفة المدير وهو يشعر بالخجل مما ارتكبه حيث استغرق ساعة كاملة في ملء أوراق الانتساب. وفي الصف الذي كان معظم طلابه من النساء، تأمّل الأستاذ قليلاً قبل أن يجول بنظراته بين الطلاب، ليجد زوجته بينهم تبتسم في وجهه بشماتة من تأخّره في الوصول وتوبيخ الإدارة له.

يتميّز الهولنديون، كما يلاحظهم بشارة، بالابتعاد عن المظاهر السورية والعربية الفارغة. فالجميع هنا يركب الدراجات الهوائية، فلا ينظر أحد إلى أحد، ولا يؤثر ركوبه الدراجة في مظهره كطبيب مثلاً. كما يتخيّل لو كانت معلمته التي خلعت حذاءها ووقفت على الطاولة لتكتب في أعلى اللوح، في سورية وعرف شقيقها بما فعلته.. ستكون في ورطة لا شكّ. وسيسمّى شقيقها لبقية حياته "أخو الحفيانة".

يجد بشارة أنّ السعادة الحقيقية مفهوم مؤجل عند كلّ السوريين أينما كانوا. فلا يمكن أن يعيشوا طبيعيين حتى تضع الحرب أوزارها، ويتوقف اللاعبون عن ارتكاب الانتهاكات والشرور، ويتخطى العالم دور المتفرّج ويخفف من معاناة هذا الشعب. وحتى ذلك الحين، هو لاجئ في هولندا يندمج في المجتمع ويتحدث لأصدقائه عن يومياته وتجاربه في بلاد اللجوء.

إقرأ أيضاً: بادر يبدأ حياة جديدة في هولندا