حكايات اليرموك... فلسطينيون سوريون يروون الحصار

09 مايو 2017
رغم كلّ شيء... (رامي السيد/ الأناضول)
+ الخط -

في سورية، المعاناة تطاول الجميع. أهالي مخيّم اليرموك من هؤلاء الذين أصابتهم الحرب الدائرة في البلاد لتضيف مآسي جديدة إلى مأساة تهجيرهم من فلسطين ولجوئهم إلى بلاد الله الواسعة.

لا يشبه مخيّم اليرموك للاجئين الفلسطينيين الواقع جنوبيّ دمشق، أيّ مكان آخر في العالم اليوم. وبعدما نزح سكانه بمعظمهم إلى المناطق المجاورة من قبيل يلدا وببيلا التي تسيطر عليها قوات المعارضة، لم يعد يضمّ إلا نحو سبعة آلاف فلسطيني سوري. يأتي ذلك بعدما سيطر تنظيم الدولة الإسلامية (داعش) عليه.

اليوم، ما زال سكان المخيم يعيشون وسط حصار قوات النظام السوري الذي بدأ منذ نحو أربع سنوات، وتحت حكم تنظيم "داعش" الذي حوّل الحياة في ظلّ الحصار الخانق إلى جحيم.
في محاولة للتعرّف على ملامح الحياة الباقية في المخيم، التقت "العربي الجديد" عدداً من فلسطينيي المخيّم الذين يتنقلون بصورة شبه يومية إلى بلدات يلدا وببيلا من خلال معبر العروبة الإنساني، لجلب الطعام أو استشارة طبيب أو للالتحاق بمدرسة. فينقل هؤلاء صوراً من حياتهم داخل المخيم.

وتبدو معاناة العائلات الفلسطينية التي تعيش في منطقة الريجة، غربيّ مخيّم اليرموك، تحت سيطرة تنظيم فتح الشام مضاعفة، بسبب الحصار المضاعف أوّلاً من قبل قوات النظام، وثانياً من قبل داعش.

دواء على الحاجز

مجد، من أبناء المخيّم، يخبر أنّ "في الريجة لا يتوفّر حليب للأطفال ولا أدوية ولا مدارس ولا حتى أمان. نحن معزولون عن العالم بسبب حصار داعش والنظام". يضيف: "حين يسمح داعش بخروج المحاصرين من غرب اليرموك، يكون ذلك فقط لتناول الطعام والعودة من دون إدخال أيّ شيء معهم، ولو حبّة زيتون. حتى الدواء يتركونه على حاجز الدواعش". ويتابع: "نعرف امرأة مريضة تخرج عندما يحين موعد جرعة دوائها، فتحصل عليها وتعود أدراجها. هل يمكن لأحد تخيّل الوضع؟ وهذه المرأة لا تستطيع المشي لوحدها، بل تحملها عائلتها أو تسندها لتخرج وتتناول حبّة الدواء عند الحاجز. كلّ ذنبها أنّ منزلها واقع في منطقة سيطرة جبهة النصرة".




أعراس خارج الحدود

مذ سيطر تنظيم داعش على المخيّم، منع إقامة حفلات الزفاف وبثّ الأغاني حتى في الإطار الضيق المتواضع الذي كانت تقام فيه خلال فترة الحصار. وباتت مراسم الزواج تقتصر اليوم على كتب الكتاب وتجمّع للشباب ممنوع فيه الغناء أو التصفيق. أمّا البعض، فيتوجّه إلى يلدا المجاورة لإقامة مراسم الزفاف. هكذا يتخلصون من التضييق الذي يفرضه داعش ويتشاركون فرحتهم مع عائلاتهم وأقاربهم النازحين في يلدا وببيلا.

ويشير مجد في السياق، إلى أنّه "عند الاحتفال بمراسم الزواج في يلدا ثم العودة إلى المخيّم، لا بدّ للعروس من أن تبدّل ثوب زفافها بلباس أسود اللون وهي تجتاز المسافة بين الحاجزين قبل الساعة الخامسة عصراً. لذا باتت الأعراس تبدأ عند الظهيرة، حتى يتمكّن سكان المخيّم من العودة إليه".

تجدر الإشارة إلى أنّ القائمين على داعش في المخيّم، أعلنوا أخيراً عدم اعترافهم بأيّ قران يُعقَد خارج هيئاتهم، وقد بدأوا بالفعل بمعاقبة المخالفين. ويروي مجد أنّ "أحد شباب المخيّم عقد قرانه أخيراً في يلدا المجاورة ثم عاد إلى المخيّم، فداهم الدواعش منزله واتهموه بالخلوة غير الشرعية وأبلغوه أنّ عقد قرانه ملغى، وعمدوا إلى جلده في الشارع مع زوجته. بعدها، أجبروه على عقد قران آخر في مكاتبهم".

رحلة إلى المدرسة

إلى ذلك، أغلق تنظيم داعش بعد سيطرته على المخيّم كلّ المدارس التابعة لوكالة إغاثة وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين (أونروا). في البداية، حاول الأهالي مقاومة القرار، فبدأ عناصر التنظيم يتحكّمون بالمدارس وفرضوا حصص دروس شريعة في أيّ وقت يرتأونه مناسباً.

ويروي خلدون، وهو مدرّس من مخيّم اليرموك، أنّه "في منتصف الدرس يدخل الشرعيّ الخاص بهم ويقاطع الأستاذ ويطرده من الصف، ليبدأ بإعطاء درس الشريعة المفروض على التلاميذ. كذلك راح يحاسب الأطفال على اللباس غير الشرعي بالنسبة إليهم. استمرّ الوضع على هذه الحال إلى حين انتهاء ذلك الفصل الدراسي وإصدار داعش قراراً ثانياً يقضي بتحويل كلّ مدارس المخيم إلى مدارس الخلافة وتدريس منهاج خاص بهم. وهذا ما يتوفّر اليوم".

وعندما رفض الأهالي إرسال أطفالهم إلى تلك المدارس، راح التنظيم يرغّبهم بها من خلال منح التلميذ وذويه مبلغاً من المال. يقول خلدون: "ليس لدينا اطلاع تام على ما يحدث في مدارسهم تلك. فقط نعلم بأنّها تدرّس اللغة العربية والشريعة. هم يرون في المواد الأخرى مواد كفر". من هنا، يرسل الأهالي بمعظمهم أطفالهم إلى مدارس خارج المخيّم، بحسب خلدون، الذي يوضح أنّ "تلاميذ المخيّم يتوزّعون على مدارس يلدا وببيلا، لكنّهم يعانون من صعوبة التنقل يومياً بسبب إغلاق الحاجز بين المخيّم ومنطقة يلدا مراراً وتكراراً. وهؤلاء الصغار يتكبّدون عناء الانتقال اليومي كلّ صباح مشياً على الأقدام لمدّة نصف ساعة على أقل تقدير. وفي فصل الشتاء، تزداد معاناتهم بسبب الأمطار والبرد والطين. فيلدا منطقة زراعية".



تحويل الأطفال إلى وحوش

أطفال المخيّم بمعظمهم لا يعرفون من الحياة إلا حكايا النظام وداعش والقصف والرصاص وقطع الرؤوس. ويتقصد عناصر التنظيم تنفيذ إعداماتهم وجرائمهم أمام أعين هؤلاء، حتى بات كثيرون منهم يتابعون تنفيذ العقوبات وعمليات الإعدام، خصوصاً الذين يقصدون مدارس داعش التي تشجّعهم على هذه الممارسات. فتراهم يشاركون في التهليل لها، ويطلقون عبارات الشتم تجاه ضحايا الإعدام قبيل إعدامهم. وهو ما يظهر في صور كثيرة وتسجيلات ينشرها التنظيم من المخيّم.

ويأسف خلدون قائلاً إنّ "التنظيم يحاول جاهداً قتل براءة الأطفال وتحويلهم إلى وحوش. يمكننا أن نلاحظ كيف يميل هؤلاء إلى صنع مسدسات وسكاكين من الورق وإلى تمثيل قطع الرؤوس والاشتباكات والاقتحامات. هم الحلقة الأضعف، وفقر الأهل وعدم اهتمامهم بأبنائهم جعل داعش يسيطر على عقولهم ويجنّدهم في صفوفه من خلال بعض الماء والطعام".

جحيم الرجال

ويستغل عناصر التنظيم حالة البطالة والفقر التي يعيشها أهالي المخيّم بسبب حصار النظام. ويخبر مجد أنّ "الرجال يبحثون عن أيّ عمل يساعدهم على الحياة. ويضطرون في سبيل ذلك إلى القبول ببعض الأعمال التي يعرضها التنظيم، من قبيل حفر أنفاق لداعش في مقابل قليل من المال. إلى ذلك، يجنّد التنظيم البعض كعملاء، وهذا يرتبط بوعي هؤلاء".

من جهته، يقول ثائر، وهو شاب من المخيّم، إنّه يعيش في "العصر الجاهلي". ويوضح: "يفرضون علينا رفع البنطال لفوق الكعب، وطبعاً يجب أن يكون عريضاً. بسبب أمور كهذه، اعتقلوا أخيراً شاباً كان يلبس بنطالاً قصيراً وهو يصلح سيارته. وحوّلوه إلى أحد فروعهم الأمنية، يسمّى بالفرع أربعة". يضيف ثائر أنّ "الرجل يُمنع كذلك من بيع السلع للنساء، ومن الجلوس في الشارع أو الوقوف مع امرأة"، ويتابع متأفّفاً: "منعونا من الجينز ومنعوا بعض الشبان من تربية الحمام. كلّ هذا جعل المخيّم جحيماً لا يُطاق".

بئر مياه يتيم

بعد منع تنظيم داعش عمل الجمعيات التي كانت تهتمّ بالآبار الارتوازية، لم يتبقَّ للأهالي سوى بئر ارتوازي واحد في شارع 15 يزوّدهم بالمياه. وفي كلّ يوم، يقصده رجال وأطفال ونساء من كلّ أرجاء المخيّم ليحملوا ما استطاعوا من مياه إلى بيوتهم على دفعات متتالية ولمسافات طويلة. وفي صباح اليوم التالي، يعيدون الكرّة من جديد.

يقول محمد، الذي عمل في مشفى فلسطين التابع للهلال الأحمر الفلسطيني، إنّ "نقص المياه الدائم لدى أهالي المخيّم تسبّب في انتشار الجرب والقمل والالتهابات الجلدية، بالإضافة إلى نقص في المناعة لدى الناس. وكلّ هذا من دون توفّر أيّ خدمات طبية في المخيّم. ما يعيشه أهالي المخيم ليس حياة". ويشير إلى أنّ "عناصر داعش يتلقون علاجهم - في حال احتاجوا إلى ذلك - خارج المخيّم في دمشق، وتحديداً في مشفى المهايني. يخرجون بسياراتهم ويعودون متى أرادوا، هم ونساؤهم وأطفالهم". يضيف أنّهم "يملكون صهاريج مياه استولوا عليها بعد سيطرتهم على المخيّم من هيئة فلسطين الخيرية التي كانت بمثابة مجلس محلي لمخيّم اليرموك، كذلك استولوا على مولدات الكهرباء من الهيئة".




ابتزاز للنساء

في سياق متصل، تعاني نساء المخيّم من التضييق على حركة خروج الرجال والشبان من المخيّم، لا سيّما بعد اعتقال العشرات من قبل قوات النظام في عام 2013 على حاجز الجسر الذي يصل المخيّم بدمشق. في ذلك الحين، راحت النساء يتولّين مهمّة الخروج يومياً إلى ما وراء حدود المخيّم لجلب ما يستطعن حمله من طعام للعائلة والأقارب والجيران. لكنّهنّ وبعد إغلاق الحاجز وإطباق الحصار كلياً على المخيّم، بدأن يخرجن إلى البساتين والحقول المجاورة التي ترصدها قناصات النظام، ويخاطرن بحياتهنّ لقطف أعشاب صالحة للأكل، كالخبيزة والعلت.

يقول محمد إنّهم كانوا يستقبلون في المشفى "نساء تعرّضن إلى القنص. وتلك الحالات بمعظمها كانت تنتهي بالموت". ويخبر أنّه "في مرّة، وقفت سيارة الإسعاف أمام باب المشفى، فنزل منها طفل مصاب بقدمه. كان يصرخ بصوت عالٍ: قتلوا أمي. حاولت تهدئته لأنّني ظننت بأنّه يهلوس. لكنّني اكتشفت بعد دقائق أنّ أمه كانت بالفعل في الغرفة الثانية مصابة بطلق ناري في رأسها. هما أصيبا في أحد البساتين".

ويشير محمد إلى أنّ نساء كثيرات في المخيّم تعرّضن إلى الابتزاز من قبل تجّار الأزمة الذين يستغلون حاجة الناس بسبب الحصار. يقول: "بعضهنّ يختار فضح المبتزّ فيما تفضّل أخريات تناسي الحادثة. وفي إحدى المرّات، عندما كان الحصار في أشدّه، وقفت امرأة أمام بسطة عرض عليها البائع فقط كيلوغراماً واحداً من الأرزّ، وقد كتب عليه 30 ألف ليرة سورية. سألته: من لا يملك هذا المال من أين يأتي به؟ فلمّح لها بأن تأتي إلى منزله ليعطيها إياه مجاناً. حينها اشتكت لدى أحد الفصائل المسلحة وضجّ المخيّم بالقصة".

من جهتها، تعيش سماح، وهي أمّ لطفلين، حالات ابتزاز وإهانة كثيرة لا تقتصر على التجار. تقول: "حين سمح النظام بإدخال العلب التابعة للأونروا بعدما قضى 198 شخصاً في المخيّم من الجوع في بداية عام 2015، خرجتُ مع نساء أخريات لنحمل علب المساعدات. كان وزن الواحدة منها نحو 30 كيلوغراماً، وكنّا نحملها ونسير بها في منطقة اشتباك خطرة جداً حتى ندخلها إلى المخيّم. هناك، كان ينتشر عناصر من قوات النظام ومن الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين - القيادة العامة، فانهالوا علينا بالإهانات والضرب العشوائي. لن أنسى ذلك اليوم وكيف كانوا يحاولون إذلالنا".

المساهمون