حكايات الموت الغزّي على الشاشات وبين الورق

24 سبتمبر 2017
العمل الفلسطيني "صيف حار جدًا" (الفيسبوك)
+ الخط -
شكلت الفنون والآداب الإنسانية مرآةً للمجتمعات، مكشوفة فيها آلامهم وأحزانهم ومفضوحة من وراء حجابها مخاوفهم وهواجسهم، وثقت مصابهم وأيامهم المريرة منها والمليحة، وروت قصصهم وحكاياتهم، إحدى القضايا التي استحوذت نصيباً هائلًا من الإرث الفني والأدبي، هي الحرب..

إذ نجحت الأعمال الفنية والأدبية التي أنتجت بعد الحروب في رسم صورة موازية للحرب في أذهان كل أولئك الذين لم يشهدوها ولم يعايشوها، بل ذهبت في كثير من الأحيان لأن تخلق لهم اصطفافا سياسيًا وموقفا أخلاقيا من الحرب ذاتها، فكل أولئك الذين لم يعاصروا الحربين العالميتين، على سبيل المثال لا الحصر، لم يقرأوا الكتب التي أرّخت للحرب، ولم يطلعوا على أراشيف الدول، ولا على الشهادات الرسمية لكل أولئك الجنود والقادة الذين خاضوا غمار الحربين.

الأغلبية إما شاهدت فيلماً وثائقياً أو سينمائياً أو سمعت أغنيةً أو قرأت راويةً أو مجموعة قصصية، شكلت كل تلك الأعمال بمجملها إرثاً بشرياً، وذاكرة تراكمية، وكان من الضرورة بمكان ألا ينسى مليونا فلسطيني نصيبهم منها.

وهنا نتجت عشرات من الأعمال الفنية والأدبية التي توثق وتؤرخ لحروب إسرائيل الثلاث على قطاع غزة خلال السنوات العشر الماضية، ستشاهد لون الدم على شاشات مخرجيها، وتشم رائحة الموت ينبعث من بين صُفح دفاتر كتابها.

سنعرض هنا لأبرز الأعمال الفنية وتحديداً (السينمائية) والأعمال الأدبية التي أنتجها مخرجون وكتّاب غزيون بعد حرب غزة صيف عام 2014.

الأعمال الفنية: صيف حار جدًا
"الجو رمضان، الدنيا حر صيف، ما فيش كهربا ولا مروحة. توقعناها زي الحرب الأولى والثانية بس هالمرة كانت غير.. الدنيا شوب كإنو جهنم فتحت بوابها.. حر ونار وموت، السما بتضوي أحمر طول الليل زي الألعاب النارية وكإنو مشهد فيلم رعب، بس إحنا أبطالو".

جاءت تلك العبارات على لسان أريج أبو عيد، المخرجة الشابة، صاحبة الفيلم التوثيقي "صيف حار جداً"، والذي عُرض للمرة الأولى ضمن فعاليات مهرجان شاشات العاشر لسينما المرأة..

تروي أبو عيد في ست عشرة دقيقة نصيبها من الموت العمومي الذي ضرب غزة صيف عام 2014، تحكي قصتها كمصورة صحافية جالت بكاميرتها بين شوارع الخوف وأزقة الرعب خلال أيام الموت الهاطل من السماء، والتي لم تتوقع في يوم أن إحدى سيارات الإسعاف التي تصعد للعديد منها لتصور الجرحى والشهداء بداخلها، ستحمل في يوم جثمان أختها الشهيدة عائشة..

وسط كل ذلك تعرض أبو عيد لتفاصيل عديدة من الحرب، لا بشكلها الفج والمجرد، بل ذهبت لتفتح عدسةً على الأيدي المرتعشة والخطى الثقيلة، الأبواب التي لن تُسدل ثانيةً، الكهرباء الغائبة عن المصابيح منذ أيام، صنابير المياه التي تنقط بالفراغ والرعب.

لاقى الفيلم العديد من الانتقادات، حيث ذهب بعض النقاد إلى القول، أنه كان بإمكان أبو عيد أن تعبر بأكثر من نبرة صوتية، حيث إن صوتها كان على منوالٍ واحد طول دقائق الفيلم، من دون أن يحمل أي دلالات معبرة، في حين ذهب آخرون لانتقاد غياب المشاهد المصورة التمثيلية والتي أثرت على رسالة الفيلم حسب زعمهم، فيما ذهبت آراء أخرى لإبداء آراء إيجابية من الفيلم، ولاعتبار تجربة أبو عيد، تجربة صادقة ومعبرة وجديرة بالاهتمام، وأن صوتها الشخصي الذي رافق المشاهدين طوال دقائق الفيلم كان بمثابة خلاص الغزيين الجمعي، الصوت المحمول على البساطة والشعور الوجداني غير المتكلف.

أرواح عالقة
إن كان الغزّي وهو يجلس في بيته يخشى صاروخاً هابطاً من السماء، أو قذيفةً مدفعية من إحدى الدبابات، فإنه كذلك يخشى وبنفس القدر مكالمةً لا يتمنى أن يتلقاها أبداً، جهة الاتصال جيش الاحتلال الإسرائيلي، مضمون المكالمة، عليك أن تخلي بيتك فوراً، استعد، وكن حذراً، سنحيل بيتك إلى ركام، وخلال لحظات من هذه المكالمة.

عن حالة التصلب التي تصيب شرايين العائلات الغزّية التي تتلقى تلك المكالمات، ينطلق الفيلم الروائي "أرواح عالقة" للمخرجة ريما محمود، ليصور تلك اللحظات المريرة من حياة آلاف العائلات الغزية، الفيلم الذي تبلغ مدته 8 دقائق، يعرض لكل تلك الأفكار والهواجس التي تنتاب الغزّي في الدقائق الخمس الفاصلة بين تلقي المكالمة وقصف المنزل.

ريما محمود تعرض في الأساس لقصة عائلتها في الحرب، وتكشف حالة الإرباك التي وقعت فيها وقت أن تلقت تلك المكالمة، وقد كانت قبلها بلحظات فقط تلتف حول المذياع لتتابع أخبار القصف في كل أرجاء غزة، دون أن تتخيل ولو للحظة واحدة أن خبر قصف منزلهم، سيكون الخبر العاجل القادم، هذا حال الغزيين جميعهم في الحرب، تظن أن الحرب بعيدة عنك ولن تصيبك، ولكن هي قريبة جداً بقرب الدقائق التي تعلق فيها الروح بعد مكالمة الموت تلك.

"يموت من لا يستطيع الركض في الطرقات"
نجح المخرج محمد الجبالي في فيلمه التسجيلي "إسعاف" في توثيق العديد من جوانب الحرب، من خلال مرافقته لطاقم وحدة إسعاف ميداني أثناء عملها خلال الحرب على غزة، يتنقل الجبالي وكاميرته معهم إلى أماكن القصف، إلى المستشفى، ينفعل بتفاعلاتهم، يشاركهم في انتشال الجرحى، يصرخ على المسعفين، على من هم تحت الأنقاض، على من هم في الجانب الآخر من شارع حده قذائف المدفعية المتساقطة على رؤوس سالكيه، هنا لا يكتفي الجبالي بدور الصحافي، بل يأخذ دور المسعف والمنقذ.

تكمن أهمية الفيلم كما يرى العديد من النقاد في كونه مصوراً بالكامل داخل عربة إسعاف، وهو ما أتاح للمشاهدين الاطلاع عن كثب وقرب على العديد من الأحداث الرئيسة التي تركت ندوبًا في قلوب كل الغزيين، سيارة الإسعاف التي رافقها الجبالي كانت أول الواصلين لموقع قصف أطفال عائلة بكر على شاطئ بحر غزة، كما كانت من ضمن الطاقم الذي وقف على مشارف الشجاعية ليلة إبادتها من قبل الجيش الإسرائيلي.

فيما جمع المخرج الشاب يوسف نتيل، في فيلمه "الجمعة السوداء" عدداً من الفيديوهات التي صورها أهالي رفح ممن شهدوا مجزرة يوم الجمعة في الأول من آب/ أغسطس 2014، وعرضها ضمن فيلمه الذي يروي قصص ثلاثة أشخاص نجوا من المجزرة التي فتكت بالمدينة وأهلها.

أما الشاب إسلام السقا فقام بتوليف فيديو نشره على موقع يوتيوب، تحت عنوان "ناس بتجري"، احتوى العديد من اللقطات المتتابعة لغزيين يركضون في شوارع المدينة أثناء الحرب..

مارثون مرعب، نساء، أطفال، شيوخ، رجال، مصابون محمولون، شهداء على الأكتاف، الركض بكل اتجاه، الركض خوفاً، الركض هرباً، الركض جنوناً، الركض من موت بقذيفة إلى موت بصاروخ، هنا لا تحضر إلا عبارة درويش في حديثه عن حرب بيروت عام 1982 "يموت من لا يستطيع الركض في الطرقات"، هَدف السقا من وراء تلك التوليفة إعادة دهشة الدم، وكان قد ذلك، كانت مشاهد الركض أشد وقعًا من مشاهد الأشلاء في نفس كل من شاهدوا الفيديو.


الأعمال الأدبية: "الزنانة"
هو المصطلح المتداول لدى الغزيين لطائرات الاستطلاع، الكاتب الفلسطيني عاطف أبو سيف، يستدعي في روايته "الزنانة تأكل معي" والتي نشرها باللغة الإنكليزية وقدم لها الكاتب ناعوم تشومسكي، عذابات وقصص 51 يومًا تجري فيها أحداث الرواية، وهي نفس عدد أيام حرب صيف 2014 على غزّة.

جيش الاحتلال بكافة أذرعه وأسلحته وآلاف جنوده على تخوم غزة، تمثلت في عمل أبو سيف الآخذ لشكل اليوميات في "الزنانة"، تلك الآلة التي تراقب حركات الغزي وسكناته، تأكل على طاولته، تشرب من ثلاجته، تتمدد ظهراً وفجراً بجواره وعلى سريره، ترسل إليه الموت والدمار، هل يختبئ منها؟ أين يهرب منها؟ هل ستراه إن وقف تحت شجرة الليمون؟ أو تحت مظلة البيت؟ كان أبو سيف يبحث عن إجابات الحياة واحتمالات الموت في سرده لحكايته ولحكاية الغزيين مع "الزنانة".

عدا عن رواية أبو سيف، صدرت مجموعتان قصصيتان لكل من الكاتب محمود جودة والكاتب يسري الغول، حيث دون جودة في مجموعته القصصية الأولى "غزة اليتيمة"، والتي انضوت تحتها (23) قصة، ذكرياته الشخصية وذكريات غزيين آخرين خلال الحرب، يدون اليومي والعادي في حياة غزّي غير عادي، أما الكاتب يسري الغول وعبر مجموعته القصصية "الموتى يبعثون في غزة"، قدم قصصاً مخضبة بالدماء والأشلاء، ركن فيها إلى انتهاج أسلوبٍ قصصي سينمائي يعتمد على لغةٍ وشكل يدنوان من السرد الفيلميّ، ليبعث في الدم دهشته، وفي الغزّي موته الحيّ.

إضافةً لتلك الأعمال الفنية والأدبية كان هناك العديد من المعارض الفنية والعشرات من المقالات والتدوينات الكتابية والصوتية، التي نشرها كتّاب ومدونون وأناس عاديون من غزة، والتي شكلت بمجموعها مساهمةً هامة في حكاية قصة غزة وحروبها، ورغم تلك المساهمة تبقى الحاجة ماسة لإنتاج أعمالٍ تحكي قصة غزة بعد الحرب.
المساهمون