حكايات السوريين في يوم الرحيل عن داريا

لبنى سالم

avata
لبنى سالم
26 اغسطس 2016
13F7D87F-3CB2-4567-BE7C-0D38179F1B01
+ الخط -

من بين جنبات أبنيتها المدمرة وأقبيتها المظلمة التي قضوا فيها أياماً طويلة يختبئون من نيران طائرات النظام التي لم تترك حجراً على حجر في المدينة، خرج من تبقى من أهالي مدينة داريا مع ساعات صباح اليوم الجمعة، يحملون حقائبهم ليطووا ذكريات السنوات الأخيرة المليئة بالألم والخوف وإرادة الحياة.

اصطفوا مع حقائبهم في شوارع المدينة التي اعتادوا المشي فيها لسنوات تحت مظلة الموت، ينتظر الجميع دورهم في الخروج، فلأول مرة منذ سنوات لا يجول الطيران الحربي في السماء.


يصف محمد، وهو ناشط إعلامي من داريا، الحال قائلاً: "حالة من الهدوء تعم المكان. ننظر إلى بعضنا وإلى الأمكنة نظرات الوداع الأخيرة. الوداع الذي نهرب من الحديث عنه ونعزي بعضنا بأننا عائدون قريباً. رجل ثمانيني يتعكز على كتفي ولديه، ويصيح وسط الهدوء: من قال لكم أني أريد النزوح، اتركوني أموت هنا، يرد عليه جيراننا: صلي عالنبي يا حجي، يواسونه ويواسون أنفسهم".

ويضيف الناشط الشاب: "أسمع ديمة، ابنة جيراننا، التي تقف بجانبي تسأل أمها: ماما يعني نحنا رايحين من الحرب؟ لوين رايحين؟ ترد عليها بحرقة: مشوار ماما مشوار. تقفز الطفلة فرحاً، تقترب مني وتسألني: عمو أنت رايح معنا؟ أجيبها: نعم. فتقول: إذاً لماذا أنت حزين؟ هي أول مرة يخلينا النظام نطلع مشوار".

ويتابع: "لم تخرج هذه الطفلة من داريا منذ أربع سنوات، ولا تذكر آخر مرة خرجت فيها، لكنها لا تعلم أن مشوارها هذه المرة قد يطول، وأن هذا اليوم لن تنساه في حياتها، اليوم الذي اقتلعت فيه واقتلعنا من داريا. عزائي الوحيد أن هؤلاء الأطفال كتب لهم عمر جديد، وسيكونون أفضل في مكان آخر".

في مقبرة المدينة، يلتف ثلاثة شبان حول قبر صديقهم بصمت، يقرأون له الفاتحة، فيما تجلس أم ترتدي ثياب الرحيل بجانب قبر ولدها. تمسح بيدها على حجارته كأنها تودعه للمرة الثانية، يقول محمد: "الكل زار قبور أحبائه اليوم. يعرفون أنهم لن يستطيعوا زيارتها مرة أخرى. فالنظام يخرجنا حتى لا نعود".


يقول عبد الله، وهو متطوع في فريق الهلال الأحمر في دمشق: "تحركت اليوم 45 حافلة لنقل المدنيين من داريا، ترافقها سيارات الهلال الأحمر، كمرحلة أولى تم تجهيز مراكز الإيواء في حرجلا وعدرا لاستقبال وتسجيل مهجري داريا، وقد يتمكنون بعدها من التحرك إلى مناطق أخرى، ينتظر استقبال 4 آلاف مهجر معظمهم من النساء والأطفال، وستعنى فرق الهلال الأحمر بتقديم المعونات لهم. وتتحضر فرق الإرشاد والدعم النفسي لمساعدة الأطفال الذين عاشوا سنوات عصيبة أخيراً".

وأوضح عضو بالمجلس المحلي لداريا، امتنع عن ذكر اسمه، أن "عمليات التهجير ستستمر حتى يوم الاثنين"، مشيراً إلى أن النظام هدد بإيذاء المدنيين الذي خرجوا في حال لم يخرج جميع المقاتلين من المدينة، "لذا تجري محادثات مع الأمم المتحدة لضمان أمن المدنيين وعدم تعرضهم للاعتقال أو الإيذاء بعد خروجهم".
ويضيف: "عمليات إخراج المقاتلين ستبدأ غداً، وستكون وجهتهم إلى إدلب برفقة بعض عائلاتهم، وقد يصل إلى إدلب بين 700 إلى ألف شخص من داريا".

من جانبها، قالت أم خالد لـ"العربي الجديد": "لأول مرة أخرج خلال ساعات النهار، خلال الأسبوعين الأخيرين لم نخرج من القبو إلا في الليل حين يتوقف القصف، نخرج فقط لنتنفس الهواء، فالقصف يبدأ مع ساعات الصباح، نحتمي في هذا القبو المعتم منذ أشهر، ومنذ بدء الصيف صار أشبه بالجحيم، الحرارة فيه تتخطى الـ50 درجة في النهار، إضافة إلى الانفجارات وقذائف النابالم التي تنشر الحرارة في الجو. هذا سجن كبير، بل أسوأ، خطر الموت موجود في كل لحظة، كل يوم أنظر لأطفالي ولا أعلم إن كنت سأراهم في اليوم القادم، كل شيء يهدد حياتنا، الجوع والعطش والحر والقذائف ولم يحرك أحد ساكناً لأجلنا".