حق الذاكرة في مصر

04 نوفمبر 2016
+ الخط -
من الأهمية بمكان أن نذكر أن رواية الانقلاب في مصر وسدنته تظل عملية وحالة تزوير كبرى، اتخذت أشكالاً عدة، جمعت بين التمرير والتبرير والتغرير، وصلت في قمتها إلى عملية تزوير يندى لها الجبين، ومنذ هذا الانقلاب الذي قلب كل شيء، وصدّر روايته القميئة، وقد قهر الجميع على ترديدها ضمن عملية إفك كبرى، كان في الخلفية منها السلاح والبطش الذي لم يقتصر قط على التلويح به، بل استخدم في مجازر عدة، ليتم تعميد هذه الرواية واعتمادها بالدم وإراقته، واستمر مسلسل الترويع ليفرض هذه الرواية الكاذبة الخاطئة، ليمارس اعتقالاً ومطاردة لمن احتج عليها، أو حاول كشف النقاب عن سرديةٍ أخرى، كانت المعركة، ولا تزال، معركة التوثيق والذاكرة تدور رحاها، خصوصاً أن هذه السردية والرواية الانقلابية امتدت بأثر رجعي، لتشوه عن عمد ثورة "25 يناير" من كل طريق، وبكل الأساليب.
تسارعت الأحداث وتوالت المشاهد الظاهرة والمصطنعة التي حجبت الحقائق عن عمدٍ، وضمن عمليات الإفك الممنهجة تحاول في عملية التزييف الكبرى التي مارستها أسوأ عملية غسيل مخ جماعي قذر ومتعمد، ضمن عمليات شيطنة وصناعة كراهية، لبدء حرب معلنة وغير معلنة، بدأت من إعلاناتٍ حاول من خلال غطاء شعبي مما أسموه "اللقطة"، مستخدمين ذلك أسوأ استخدام، وسموا الأشياء بغير مسمياتها، فأسموا الانقلاب العسكري ثورةً، وامتهنوا إرادة الشعب، وتدثروا بها بطلب تفويض لمواجهة على حد تعبيرهم إرهاب محتمل، وارتكبوا من المجازر ما يندى له الجبين، ومارسوا سياساتٍ أمنيةً بوليسيةً فاشيةً، أدت إلى حالة خطيرة، لم تؤثر فحسب على عملية قتل السياسة بعد اغتصابها، بل تلاعبت باستخفاف بالمجتمع، وأصول علاقاته وشبكة علاقاته الاجتماعية، فأفسدت وخربت، ثم سارت على طريق الفشل في السياسات، فتدهور حال المجتمع والدولة والاقتصاد والسياسة إلى أسفل سافلين.
في ظل هذه الأجواء، تبدو تلك الشهادات، وإن تأخرت، أو لم تشرع في سرد الحقيقة الكاملة ذات أهمية قصوى في تدبيج سردية ثانية، بدلا من رواية الإفك الانقلابي، وفي ضرورة لم
شعث هذه الرواية التي مزّقها أهل الانقلاب وسدنته إرباً، وفرضوا روايتهم الزائفة الكاذبة، الرواية الأخرى مهمة في نفض حال التعتيم والظلمة والظلام والظلم الذي فرض ستاراً كثيفاً ليعمي الحقائق ويثبت الأكاذيب، عن هذا يشكل بداية المواجهة الحقيقية لمحاولات الانقلاب ونظام الثالث من يوليو المستميتة في طمس الذاكرة وتشويهها عن عمد، وفي بيئةٍ من القهر والخوف والتفزيع وتحت تهديد السلاح، وخوض معارك قذرة لا تتمتع، بأي حال، بأي درجة من الإنسانية، بل لم يتورعوا عن أساليب القتل والاعتقال والمطاردة والأذى المتعمد لتمرير هذه الرواية على وضوح زيفها وفضح أكاذيبها.
صرح الدكتور محمد البرادعي بتصريحات مثيرة خلال مدة ليست قليلة، كانت أولها في يناير/ كانون الثاني 2015 في حوار مع صحيفة نمساوية، وآخرها في مايو/ أيار الماضي في ندوة لمعهد الجامعة الأوروبية، نشرت بعض مقاطعها على مواقع التواصل الاجتماعي. اتسمت ردود الأفعال على تصريحات الرجل في المرتين بالانفعال الشديد المحمل بالسب والقذف والتخوين وغيرها من الآفات السلبية التي باتت تسيطر على الجميع، في ردود أفعاله ضد الجميع. لم يحاول أحد قراءة ما بهذه التصريحات من مقولات واعترافات مهمة وثمينة يمكن استثمارها في إعادة قراءة المشهد السياسي، لبيان حقيقة بعض ما فات ومازال يجرى. فكل تصريح للرجل يلقي الضوء على مشهدٍ فات لكن تجلياته ما زالت تلاحقنا.
في ظل هذه الأجواء، تكتسي شهادة البرادعي وبيانه أهمية قصوى وإضافية، فضلاً عن توقيتها، لأنه يمثل كلمة مسموعةً عند بعض الداخل وفي الخارج، صحيح أنه ذكر طرفاً منها متناثراً وبشكل غير متماسك، إلا أن هذا البيان أقرب ما يكون إلى روايةٍ شبه متكاملة، على الرغم من أنها لا تزال في حاجة إلى التصديق لها، والتثبيت بالعمل الدؤوب، أفضل ما في هذه الشهادة أنها أثبتت، وبشكل قاطع، مسؤولية المنقلب تعمداً وإصراراً على إزهاق أرواح بلا جريرة، وارتكاب سياسات حمقاء شنعاء، على الرغم من أن هناك طرقاً أخرى، كان يمكن أن تسلك، بل كان من الواجب أن تطرق، وأن استهانة عبد الفتاح السيسي ومنظومته بالمجتمع ولحمته والجماعة الوطنية وتماسكها، وبتعمد خطيرٍ يرتقي الى خيانة الوطن والقسم والدستور، وأنه ضالع بل أدنى شك في وقوع الوطن في حال من التخريب الواسع والمتعمد، على الرغم من إدراكه عواقب ما يفعل، ومآلات موقفه وسياساته من تصريحاتٍ أطلقها هو ذاته هنا وهناك.
ومن ثم، لا بد من أن يشكل هذا البيان حالةً تُبنى عليها مواجهة هذا الانقلاب الغاشم الفاجر الفاشي، في ضوء الأكاذيب والانحطاط الأخلاقي الذي تمارسه بعض وسائل الإعلام، مفيدًا لسرد بعض الحقائق، ووضعها في سياقها السليم، بعيدًا عن الإفك والتزوير، وكشف التدليس الذي صاحب اجتماع بعد ظهر 3 يوليو/ تموز2013، فقد كان المفهوم أنه اجتماع لبحث الوضع المتفجر على الأرض، وكذا فإن الكشف عن أن رئيس الجمهورية كان قد تم احتجازه بالفعل صباح ذلك اليوم من القوات المسلحة، من دون أي علم مسبق للقوى الوطنية، أمر آخر يدين هذه الطغمة، وكذلك فإن تعمد إفشال مساعي للوساطة مع مؤيدي الرئيس السابق، بمعرفة الجميع وتوافقه، بما في ذلك ممثلي المجلس العسكري، للتوصل الي أُطر وتفاهمات لتجنب العنف.
ولكن للأسف، وعلى الرغم من التوصل إلى تقدم ملموس نحو فض الاحتقان بأسلوب الحوار
والذي استمر حتى يوم 13 أغسطس/ آب، فقد أخذت الأمور منحىً آخر تمامًا، بعد استخدام القوة لفض الاعتصامات، وهو الأمر الذي كنت قد اعترضت عليه قطعيًّا داخل مجلس الدفاع الوطني، ليس فقط لأسبابٍ أخلاقيةٍ، وإنما كذلك لوجود حلول سياسية شبه متفق عليها، كان يمكن أن تنقذ البلاد من الانجراف في دائرةٍ مفرغة من العنف والانقسام، وما يترتب على ذلك من الانحراف بالثورة وإحداث العقبات أمام تحقيقها أهدافها. أمثلة على منهج الخداع والكذب واختطاف الثورة التي كنت شاهدًا عليها، وأدت بنا إلى ما نحن فيه، والتي تمنعني بالطبع مقتضيات الفترة الحرجة التي تمر بها مصر من الخوض فيها.
هذا من بعض نصوص شهادته التي يمكن البناء عليها في محاصرة هذا الانقلاب وممارساته، وحصره بالزاوية ومحاكمته، ومن المهم أن يكمل البرادعي مهمته وشهادته على هذا النظام الفاجر. نعم الشهادة تأخرت، وكان الأولى أن تقدم في وقتها. ولكن، في معركة الذاكرة لم يفت أوانها، وأدعو البرادعي إلى أن يشرع ليبني عليها عملاً لا بد أن نراكم عليه. هل آن الأوان أن نخرج من حالة تصفية الحسابات إلى التوجه إلى التأكيد على حق الذاكرة، وأن نقبل من يسهم في ترسيخ هذا الحق، ونبني على قاعدة الحق في هذه الشهادة، وفي الحساب والمحاسبة أولويات يجب أن تُراعى، أتفهم اختلاف الناس معه، واتهامات هنا وهناك لبعض مواقفه، وقمت ببعض ذلك بنفسي. ولكن، على من يقف في وجه نظام فاشي كهذا، يتعيش على قاعدة فرق تسد، ألا يمنع أحداً من مواجهة هذا النظام تحت دعاوى شتى تمنع من الفعل الإيجابي، فنقف في صف المستبدين، ونرجم الرجل ونرفض بعض الحق الذي قال. لا تعرف الحق بالرجال، ولكن اعرف الحق، ولا تتوانَ في إسناده ودعمه، اجعل الحق بوصلتك، وحق الذاكرة من جملة الحق.
ECE602C0-DB35-414B-9572-17B675CE3C2A
سيف الدين عبد الفتاح

كاتب وباحث مصري، مواليد 1954، أستاذ العلوم السياسية في جامعة القاهرة، من مؤلفاته "في النظرية السياسية من منظور إسلامي"، و" التجديد السياسي والواقع العربي المعاصر.. رؤية إسلامية".