حفرٌ معرفيّ في الفئات المكونة لنظام البعث

24 فبراير 2015
+ الخط -
أصدرت وحدة ترجمان في المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات في تشرين الأول/ أكتوبر 2014 ترجمة لكتاب حنّا بطاطو "Syria's Peasantry, the Descendants of Its Lesser Rural Notables, and Their Politics"، أو "فلاحو سورية أبناء وجهائهم الريفيين الأقل شأناً وسياساتهم"، الصادر عام 1999 عن دار "Princeton University Press".
إذا كانت ترجمة كتاب "فلاحو سورية" تمثل تكريماً لباحث عربي كبير، هو حنا بطاطو، حفر معرفياً في مجتمعات المشرق العربي، ولا سيما العراق وسوريّة من دون أن يحظى بتكريم يليق به في حياته، فإنها تأتي استجابة عملية لظروف الراهن بعد اندلاع الثورات وتغيّر مساراتها وتبدّلها، لتسلط الضوء تحليلياً على طبيعة السلطة السياسية القائمة، ولكن بالعودة للجذور التاريخية والاجتماعية والاقتصاديّة والسياسية للفئات المكوّنة لها، وتجاوز التعميمات السطحية، والجانب الغوغائي الذي يستسهل تحليل الصراعات والأزمات المجتمعية القائمة، إما باستحضار عوامل هوياتية والبناء عليها، أو بنظرة استشراقية فوقية كما هو حال كثير من الباحثين والكتّاب الصحافيين الغربيين في هذه المرحلة.
قبل الغوص في تفاصيل الكتاب وفصوله، لا بدّ من التوقف عند الكاتب والذي خطّ لنفسه، أو طور ببراعة منهجاً تحليلياً شاملاً يتجاوز اختصاصه العلمي الضيق "العلوم السياسية"، وأرّخ للمجتمعات ودينامياتها بما يتجاوز الممارسة التاريخية الكلاسيكية "الإيستوريوغرافيا" أو علم التأريخ، فكان نتاجه عابراً للتخصصات والحقول المعرفية؛ علم اجتماع، انتربولوجيا، اقتصاد، علوم سياسية .. الخ، ضمن ما يمكن تسميته؛ منهج التحليل الاجتماعي التاريخي الذي يعتمده عدد من الباحثين الجادين لتحليل مجتمعات مركبة.
حنا بطاطو باحث وأكاديمي فلسطيني الأصل أميركي الجنسية، ولد في القدس عام 1926 وهاجر إلى الولايات المتحدة. درس العلوم السياسية في مدارس وجامعات أميركية مختلفة، وحصل على درجة الدكتوراه في العلوم السياسية من جامعة هارفرد عام 1960. عُرف بطاطو بدراساته وأبحاثه عن العراق. ولعلّ كتابه الطبقات الاجتماعية القديمة والحركات الثوريّة من أهمّ تلك الدراسات، ويتفوق في قيمته، بحسب رأي النقاد والمختصين، على كتاب "فلاحو سوريّة" الذي ختم به حياته (توفي عام 2000 في الولايات المتحدة)، ولم يتفرغ له كسابقه، عدا عن ندرة المراجع والوثائق المتعلقة بالطبقات الاجتماعية الفلاحية أو الطبقات الدنيا "الفقراء" في سوريّة. لا يعني ذلك بأي حال من الأحول أن المنهج الشامل الذي اعتمده بطاطو لم يعر اهتماماً لأدوات المدارس الكلاسيكية كالوثيقة ومصدرها، بل إن الناظر إلى الهوامش، يدرك الجهد الكبير للباحث، والوقت المستغرق لإجراء مقابلات وشهادات أصلية من منبعها الأم؛ (أكرم الحوراني، ميشيل عفلق، صلاح الدين البيطار، جلال السيد، وهيب الغانم، سامي الجندي، أنطوان مقدسي، إبراهيم ماخوس، عدنان سعد الدين، أبو أياد وآخرون غيرهم).
أحدث الكتاب، وعلى الرغم مما سُجّل عليه من مؤاخذات، نقلة نوعيّة في الدراسات السوريّة القطاعية منها أو الشاملة، ذلك أن المؤلف تجنّب ما أمكن، مدخل شخصنة النظام أو تغليب التحليل المذهبي، لا سيّما في مرحلة حكم الرئيس السابق حافظ الأسد، الذي وصفه بـ "أوّل رئيس من أصول فلاحيّة"، مركزاً على المقاربات السوسيو- اقتصادية في فهمه الشرائح الفلاحية في سوريّة ومساهمتها في الاجتماع السوري، فسار على هدي المنحى البحثي للكاتب والمؤرخ فولكر بريتس الذي وضع نقداً شاملاً للمنطق الأقلويّ في العمل البحثي عن سورية، وخاصة المقاربات الغربية. وبناء عليه، نجح الكاتب في تجاوز الكثير من العقبات المنهجية في التعامل مع الأنظمة والمجتمعات وتأريخ حراكها كسيرة للملوك والرؤساء والزعماء. الأمر الذي جعله يهتم بمعالجة البنى الاجتماعية والاقتصادية وتحليلها، والنظر في الهياكل المؤسساتية من أحزاب، وهيئات سياسية، ومنظمات شعبية، وجماعات منظمة. ومع تأثّره بالمدخل الماركسي في تصنيفاته للطبقات وطبيعة الصراع الاجتماعي في سورية، فإنه لم يغفل عن تفصيل القول في الخلفيات الطائفية للفلاحين وعقائدهم ومرجعياتهم وطقوسهم الدينية. وما ميّز الكتاب من الناحية التأريخية، نجاحه في تجاوز "المفارقة التاريخية" التي تعتبر بحسب " لوسيان فيفر" الخطيئة الكبرى في الكتابة التاريخية، وتتجلى في إسقاط مفاهيم مرحلة معينة والمواقف منها على مرحلة أخرى لم تعرفها، وهو فخ يقع فيه بعض الباحثين، نتيجة خلطهم ما بين الإيديولوجي والتوظيفي، واستخدامهم التاريخ بشكل أداتي قصد تبرير أفكار وخطط مرحلة تاريخية معينة.
الكتاب من الحجم الكبير، أزيَدُ من سبعمائة صفحة، ويقع في أربعة أقسام رئيسة تشتمل على خمسة وعشرين فصلاً، إضافة إلى الجداول والملاحق وقائمة المراجع. يرصد الكاتب في القسم الأوّل الطفرة الديمغرافية في سوريّة، حيث ازداد عدد سكان سورية من نحو 1.5 مليون عام 1922 إلى 13.8 مليون عام 1994، ويربطها بنضهة الزراعة واندماجها التدريجي أو المتقطّع في شبكة التجارة العالمية. وقبل التوقّف عند ظروف الفلاحين الاقتصادية وتحسّن أحوالهم المعيشية، نتيجة توافر الخدمات الصحية والكهرباء وشبكة المياه الآمنة ونظام القروض والتسليف الزراعي، يمايز الكاتب بين أصناف الفلاحين. فمصطلح "الفلاحين" بالنسبة إليه يشير إلى تشكيلة من الفئات الاجتماعية ليس إلا، ويصنفهم وفق الآتي: أوّلاً "فلاحون بستانيون" يرتبطون ارتباطاً وثيقاً بالبلدات والمدن، كفلاحي الغوطة، و"فلاحون زراعيون" كفلاحي المرج أو الفرات يكرهون الزراعة ويمقتون العمل اليدوي. وثانياً، فلاحون مسالمون كفلاحي الغوطة وحوران وأهل العود في إدلب وعلويي السهل، وفلاحون محاربون أبرزهم علويو الجبال والدروز. وثالثًا، فلاحون "سنّة" وآخرون "Heterodox" يسمّيهم المترجمون "أهل البدع" في إشارة إلى الطوائف الأخرى (الدروز، العلويون، الإسماعيلية، والشيعة)، التي يتوقّف الكاتب عندها، شارحاً مرجعيات كلّ طائفة ومعتقداتها على حدة وتطورها التاريخي. ورابعاً، فلاحون ذوو روابط عشائرية قوية أو مفكّكة، وفلاحون فقدوا كلّ آثار العشائرية، ولا يرتبطون إلا على الأساس الإقليمي. وخامساً وأخيراً، فلاحون مالكون للأرض (ملّاك أو مستثمرون) وفلاحون غير مالكين.
يقدّم المؤلف في القسم الثاني عبر فصول ستة، عرضاً لأنماط وعي الفلاحين وتنظيمهم وسلوكهم السياسي، قبل تسلّم حزب البعث السلطة في عام 1963، فيعرض الأشكال المبكّرة من التنظيم الحرفي للفلاحين، والأفكار الصوفية والمذهبية التي سادت بينهم، وثوراتهم وتمرداتهم على الحكم العثماني وفي فترة الانتداب الفرنسي، ومن ثمّ أشكال الوعي والتنظيم الحديثة كتجربة الحزب العربي الاشتراكي بزعامة أكرم الحوراني بوصفه أوّل حزب فلاحي حديث منظّم، وتجربة الشيوعيين والبعثيين. ويرى الكاتب في هذا الفصل أيضاً أن فلاحي سورية لا يشكّلون نمطاً اجتماعياً واحداً، بل أنماطاً عدّة، وأنه من الضروري أن نميّز في السلوك والوعي السياسي، بين الفلاحين البستانيين والزراعيين، وبين الفلاحين الجبليين والفلاحين الأكثر مرونة في السهول، وبين من يمتلك حاضنة وروابط عشائرية قويّة، وبين من لا عشائر لهم، وبين الفلاحين الذين ينتمون إلى طوائف باطنية والفلاحين الذين ليست لديهم مثل هذه الأفكار أو المعتقدات أو الانتماءات.
يرى بطاطو في القسم الثالث "البعثية في جوانبها الريفية"، الممتدّ لثلاثة فصول، أن حزب البعث استند في انقلابه عام 1963 على نخبة عسكريّة تنتمي في جذورها إلى فئة الفلاحين، وتجمعهم توجهات ريفية متشابهة. وقد كانت هذه النخبة التي يحصرها بطاطو بضبّاط اللجنة العسكرية البعثية الذين تقلدوا مناصب قيادية في الحزب والدولة بين عامي 1959-1968 من طوائف مختلفة، ومن محافظات مختلفة. لكنهم، في غالبيتهم من أصول ريفية سواء أكانوا ملاكين كبار، أو ملاكين متوسطين أو فلاحين صغار.
وساهم انتماء ضبّاط اللجنة العسكرية إلى طبقة فلاحية زراعية (ريفية) في انعكاسات غير محدودة على المجتمع السوري، حيث بدأت طبقة الفلاحين تتوسّع، ويزداد تأثيرها، وترتقي اقتصادياً واجتماعياً بخلاف العهود السابقة لتوازن طبقة سكان المدن، وتتحكّم تدريجياً في بيروقراطية "مؤسّسات" الدولة، وتسيطر عليها. إذ قام هؤلاء بجلب واستحضار أقاربهم، أو معارفهم، أو أبناء طوائفهم من أجل التوظّف في مؤسّسات الدولة، وبالتالي أصبح سكان الريف الشريحة الأكثر حضوراً في بيروقراطية الدولة. ويقتبس بطاطو من وزير الإعلام السوري السابق سامي الجندي ما يأتي: "بدأت قوافل القرويين من السهول والجبال، تتدفّق إلى دمشق لدرجة أنك تسمع "القاف" في الشوراع والمقاهي وغرف الانتظار".
مما لا شكّ فيه أن أبواب البيروقراطية فتحت في عهد البعث، لسكّان الريف، خاصة بعد عام 1964 تزامناً مع تأميم الشركات الصناعية الكبرى حيث توافرت وظائف لكثير من القرويين، وأيضاً في عام 1965 نتيجة حركة التأميم الثانية وازدياد دور الحكومة في الحياة الاقتصادية. وقد أدّى ذلك إلى تضخّم مضطرد في عدد العاملين في القطاع الحكومي، الذين راحوا ينتسبون إلى حزب البعث. والجدير بالذكر أن شريحة الموظفين في القطاع الحكومي كانت الأكبر عدداً من ناحية (الأعضاء كاملي العضوية) في حزب البعث عام 1968، وأن شريحتي الفلاحين والطلاب كانتا الأكبر عدداً لجهة (الأعضاء المرشحين) لنيل العضوية باعتبارها مدخلاً للتوظيف في مؤسسات الدولة.

طلبنا من الله المدد فأرسل إلينا حافظ الأسد

يفرد بطاطو أكثر من نصف الكتاب (القسم الرابع) للحديث عن مرحلة حافظ الأسد، ويتناولها من مختلف الجوانب؛ خلفية حافظ الأسد وتعليمه، وسيرته ومؤهلاته العسكرية، وطريقة حكمه، وبنية سلطته ومستوياتها وخصائصها، والسياسات الاقتصادية والاجتماعية في عهده، والبعد الطائفي وتوزيع المناصب في السلطة، وتحويله حزب البعث إلى حزب جماهيري بالمعنى العددي، والدور الذي اضطلعت به المنظمات النقابية والمهنية وخاصة "الاتحاد العام للفلاحين" في خدمة الحزب والسلطة، وصراعه مع خصومه "الإخوان المسلمين"، ونجاحه في استرضاء علماء الدين الشوام والتجار والصناعيين، وسياساته الخارجية الإقليمية والدولية .. الخ.
يذكر بطاطو أن سكّان المدن أصابهم التذمّر، خاصة طبقة التجار المدنيين، لأنهم كانوا مضطرين للتعامل وبشكل متكرّر مع جهاز بيروقراطي من أصول فلاحية، لا يعرف المعاملات التجارية، ويفتقر إلى خبرة إدارة المؤسسات، أو يبيت العداء لسكّان المدن والتجار. وهو ما أدّى إلى عرقلة أعمالهم، والتضييق عليها. وقد ضاق تجار وصناعيو سورية ذرعاً بالسياسات البعثية لا سيّما تأميم الشركات والمصانع، وباختراق الفلاحين والريف للجهاز الإداري وتحكمه بمؤسسات الدولة.
تأسيساً على ما سبق، ساند تجار حلب ودمشق حافظ الأسد في انقلابه على صلاح جديد والمسمّى بـ "الحركة التصحيحية" عام 1970، ذلك أن حافظ الأسد كان يدعو إلى تفعيل القطاع الخاص وإعطائه دوراً في الاقتصاد الوطني والحدّ من السياسات الراديكالية اليسارية "الانتقامية" التي طبّقها صلاح جديد. ويشير بطاطو إلى أن أن تجّار حلب ودمشق أرسلوا المتظاهرين إلى شوارع المدن الكبرى حاملين يافطات تقول: "طلبنا من الله المدد (العون)، فأرسل لنا حافظ الأسد".
ومع انفتاح حافظ الأسد على سكّان المدن ونسجه لعلاقات مع تجّارها ورجال الأعمال فيها، وتعهده بتأمين التسهيلات التي تضمن ازدهار أعمالهم إن أمّنوا له الولاء السياسي، فإنه لم يحدث قطيعة مع سياسات البعث في الستينات، وتواصلت الهجرة الريفية إلى المدن، واستمر تضخم الجهاز الإداري للدولة الذي شكّل الحاضنة لسكان الريف، وهذا جوهر ما يطرحه بطاطو.
المساهمون