حصانة مخفية

22 مارس 2016
"القوارب الثلاثة" لـ كلود مونييه(ويكيبيديا)
+ الخط -
اتخذ لفظ الإرهاب في نهاية القرن العشرين ومطلع الألفية الثالثة معنًى أحاديًا خاصًا بالجماعات العنيفة التي تلجأ إلى السلاح، من أجل زعزعة الاستقرار. ورغم أن اللفظ كغيره من الألفاظ، تتسع معانيه وتتبدّل درجاتها وتتحول وفقًا للسياق الذي هي فيه، إلا أن هذا اللفظ صار بمثابة العلامة أو الرمز لتمرير كل قرار، سياسيًا كان أم لا، ومن أي نوع.
وفرة المؤتمرات حول هذا اللفظ، وتواتره غير المعقول في وسائل الإعلام على أنواعها، ولزومه لتصريح كل ذي سلطة، بدا إلى حد كبير حكرًا على السياسيين، الذين اتخذوا منه حجة لتبرير "إرهابهم" المضاد، الذي لا يطال "الإرهابيين" فحسب، إن استطاع إلى ذلك سبيلًا، وإنما يطال كل فرد في كل مجتمع، كما لو أن الإرهاب غدا الوسيلة الأكثر نجاحًا لتثبيت سلطة ما.
الإرهاب حاضر لكم الأفواه ومنع حرية التعبير، وحاضر لتعطيل التفكير وترهيب النقد، وتقوية الرقابة وتزويدها بأحدث الأدوات التقنية لمراقبة شبه مطلقة، يبدو أنها لن تستثني عما قريب قراءة الأفكار، وبالتالي ترهيب الأفراد بناءً على ذلك.
هذا الحضور الكلي للإرهاب، يصيب بشكل قوي الثقافة، باعتبارها عمل التفكير الأول عبر الإنتاج المعرفي والإبداعي ونقد الأوضاع القائمة بكافة أنواعها وأشكالها.
إذ لا يبدو مثلًا أن الإرهاب يصيب الاقتصاد، أو بصورة أدق عالم المال والأعمال المتحالف دائمًا وأبدًا مع السلطة السياسية. صحيح أننا بين حين وآخر، نعثر على كتابات ومقالات تتناول الفساد مثلًا أو مرتكبي الجرائم الجماعية، وهم في جلّهم من السياسيين، إلا أن ثمة حصانة
خفية، تمنع العقاب والمحاسبة، وتحافظ على دورة رأس المال والمصالح الاقتصادية.
مثلًا لا يبدو أن النفط السوري، ودورته الجديدة بين داعش والنظام وأشباههما، وصولًا إلى "التصدير المنظّم" وإن كان غير شرعي، بعيد عن تلك الحصانة الخفية. على العكس تمامًا من مصير الآثار التدمرية، أو مصير عالم الآثار السوري خالد الأسعد على يد داعش نفسه، أو أي "مثقف" تعرّض للتنكيل أو القتل أو السجن. أمثلة عربية وفيرة في هذا المضمار كما لا يخفى.
العقوبة التي يتعرّض لها المثقفون "مكفولة" لو صح التعبير. هي كلية الحضور، ولها سلالات وأبناء، منها الرقابة ومنها التدجين والمنع والحجب، فضلًا عن ابتكار آخر: إثارة الإحباط وتعميمه من خلال تعطيل أي دور لأي نقد. فما الذي يمكن مثلًا توقعه من المقالات الإخبارية التي نقلت نبأ عقد مجلس نقابة المحررين في بيروت، اجتماعًا استثنائيًا لـ"بحث الأزمة المستجدة التي ضربت عدداً من الصحف التي لوّحت بوقف الصدور أو باتخاذ إجراءات تطاول العاملين فيها". وجاء، كما هو معروف، نتيجة أخبار تحدثت عن توقف النسخة الورقية، على الأقل، لصحيفتين لبنانيتين عريقتين؛ النهار والسفير. وكان من الواضح أن الخبر يحمل في طياته احتمال التوقف ورقيًا وإلكترونيًا عن الصدور نهائيًا. الأمر الذي تمّ من دون تمهيد تقريبًا للمجلات الصادرة عن دار الصدى للصحافة والإعلام الإماراتية، وفي مقدمها مجلة دبي الثقافية.
وقبل ذاك، كان الحديث عن أزمة مالية كبرى، تعرّضت وتتعرض لها طائفة من المنابر الإعلامية، منعت دفع رواتب الموظفين. وفي سياق الأزمة ذاتها، تم إيقاف ملحقين ثقافيين: ملحق النهار التابع لجريدة النهار، وملحق نوافذ التابع لجريدة المستقبل اللبنانية.
هذا المشهد كلّه وقد اجتمعت عناصره السلبية والمؤسفة، ينبئ عن انكفاء عام ومعمّم، ثقافي بالدرجة الأولى، ويدل على مجموعة مترابطة من الخسارات والفشل. ويشكل نقطة مفصلية في سلسلة الخسارات العربية.
كان "الربيع العربي" قد مثّل صورة لاحتمال ما يمكن أن تؤديه الثقافة من دور في الحشد والتركيز على قيم الحرية والعدالة والحقوق الأساسية، ظهر هذا بشكل رئيس في الإنتاج الثقافي، وبشكل خاص في الكتابة والسينما والفن، فضلًا عن تلك المنابر الإعلامية التي أنشئت وقتها. كان الإنتاج الثقافي في جلّه إنتاجًا شبابيًا، قادرًا على الإفادة من الوسائل التقنية الجديدة، ومخاطبة الناس بمفردات العصر.
يتذكر المرء في هذا الصدد، مقالات لا تحصى، عن "الإبداع العربي الجديد" البازغ من بعد "الربيع". مقالات كانت في جلّها تمدح وتروّج لنوع من "النهضة الثقافية". وبدا كما لو أن دورة إنتاجية جديدة على وشك النشوء، نتيجة لوجود الإنتاج من جهة، والمنابر من جهة أخرى.
مر وقت قصير فعلًا، وإذ بالمشهد يسفر عن "أزمة"، عن توقف وإيقاف وانكفاء. من الصحيح أن ثمة أزمة بنيوية "عريقة" في عقلية التعاطي مع الثقافة، حيث يتمّ عزلها وترهيبها وحجبها، إيقافها وسجنها. إلا أن الثقافة ليست لفظًا يخص الإنتاج الإبداعي، بل منظومة كاملة للتفكير والإنتاج المعرفي.
القصد أنه لم يكن من حصانة لها، الحصانة كلها كانت وما تزال مخفية لـ"الاقتصاد" والسياسيين.
المساهمون