04 نوفمبر 2024
حشيشة عربية.. وهم الكيف والسياسة
يتداول بعض الشارع العربي نكتةً، أن ضابط شرطة يتتبع عصابةً تُروّج الحشيش، فيتمكّن من استدراج أحد أفرادها ليشاركه جلسة كيف (تحشيش). وتحت تأثير الحشيشة على الرجل، يحصل على المعلومات اللازمة، كاشفا له بعدها عن هويته، وأنه هنا ليقبض عليه. أطرق الرجل متأملا، ثم انفجر ضاحكا ليقول: "انتظر قليلا، رشفة أخرى من هذه السيجارة، وتشعر أنك رئيس الجمهورية".
بالإضافة إلى الشعور بالعظمة، والثقة العالية في النفس، هناك النشوة المصحوبة بالضحك، اختلال إدراك الزمن والمسافات، زيادة نصوع الألوان وزيادة الحساسية للأصوات، الهلوسات البصرية والسمعية، القدرة العالية على ملاحظة التفاصيل التي قد تثير قلقا وتوترا.. جميعها أعراض تنجم عن تعاطي الحشيش.
يحكي بودلير، في كتابه "النعيم الزائف"، تجربته مع الحشيش، فيصف حالة الفرح والبهجة العارمة، حيث الكلمات البسيطة، وأكثر الأفكار تفاهةً، يغدو لها بالنسبة لك أشكال جديدة عجيبة، لتتزاحم في ذهنك نوعياتٌ من السخافات المضحكة، وتغدو للأشياء الخارجية، ببطء، مظاهر غريبة شاذّة، تتحوّل صورا مشوّهة، فيبدو أن للأصوات ألوانا، والألوان كأنها موسيقى، لترى نفسك الشجرة التي تتمايل أمامك، والطائر الذي يحلّق فوقك في السماء...
سعى الإنسان، منذ القديم، إلى اللذة، وارتبطت وسائل اللذة بالمقدّس، فتذهب أساطير الهندوس إلى أن الإله شينغا يأتي بنبات القنّب من المحيط، لتستخرج منه باقي الآلهة الرحيق الإلهي مخفّف الأحزان. والحشيش في الصين القديمة هو واهب السعادة، واستخدم في الطقوس البوذية (التانترا) من أجل تسهيل التأمل، كما تسجله أوائل كتب الطب والصيدلة الصينية علاجا لأمراضٍ عديدة.
عربيا إسلاميا. تحدّثنا الروايات التاريخية، وأدب الرحلات، أن الحشّاشين (فرقة من الإسماعيلية النزارية، قادها حسن الصباح) كانوا يمارسون عمليات الاغتيال تحت تأثير الحشيش. ومهما كان حظ تلك الروايات من المصداقية في ميزان النقد العلمي التاريخي، فإنها، في كل حال، تعكس شهرة الحشيش في القرن الحادي عشر. أما انتشاره على نطاق واسع في القرن الثالث عشر، فدفع ابن تيمية، الذي رأى فيه مؤامرةً ضدّ الأمة يحيكها التتار، إلى حسم الجدل الفقهي حوله بإعلان تحريمه. وأفرد الفقيه الشافعي بدر الدين الزركشي (1344- 1392م) له كتابا هو "زهر العريش في تحريم الحشيش". وفي العصر المملوكي، احتكر متنفذون تجارة الحشيش، ومعها منصب ضامن الحشيش الذي يتاجر به لحساب الدولة، لكن الظاهر بيبرس أدرك خطر تحويل المجتمع إلى جمعٍ من كسالى، عديمي الإرادة، فصادر ما استطاع من حشيش القاهرة، وأحرقه، ومنع تجارته. وألقى المقريزي (1364م - 1442م) اللوم على المتصوّفة، إلا أنه أقرّ به أيضا مشكلةً اجتماعيةً تفشّت في المجتمع المصري.
تُدرّ تجارة الحشيش اليوم مليارات الدولارات في العالم سنويا، وبات الحشيش فاعلًا في العلاقات الدولية، ونشاطًا رئيسيًا لتمويل عمليات حكومات، ومليشيات مسلّحة. انتهت الجهود الدولية والمحلية للقضاء عليه بالفشل، لتقوم أكثر من 26 دولة حول العالم بتقنين زراعته، وتشريع استخدامه في الأغراض الطبية، أو الترفيهية، أو كليهما معا. أما الدول العربية، فتفاوتت سياساتها في التعاطي مع تلك الظاهرة بين ملاحقة وإتلافٍ ومصادرةٍ واعتقال، وبين غضّ نظر وتواطؤ ورشى.
يمضي لبنان بخطواتٍ حثيثةٍ نحو تشريع زراعة الحشيش لأغراض طبية، متوقعا عائداتٍ بمليار دولار سنويا، لكن هذه "الثروة الوطنية" مع دولةٍ ضعيفة وفساد، قد تخرج عن السيطرة تجارة واستهلاكا، لتضرّ مثلا بمزارعي القنّب لصالح الساسة الذين لم يفوا بوعودهم لهم، بتوفير زراعات بديلة. وفي المغرب، تستقطب سياحة الحشيش سنويا آلاف السياح من طالبي الكيف، وساهمت في العام 2016 بنحو 23 مليار دولار من إجمالي الدخل القومي. وتصدّى رئيس الحكومة السابق، عبد الإله بنكيران، لمطالبة حزب الأصالة والمعاصرة، المعارض، بتقنين الحشيش، مراعاةً لمناطق فقيرة واسعة تعيش على زراعته، ويُلاحق أبناؤها قضائيا. أما الرئيس التونسي، الباجي قائد السبسي، فوعد في أثناء حملته الانتخابية ثلاثمائة ألف تونسي من متعاطي الزلطة (الحشيشة) بتعديل العقوبات المشدّدة عليها، ليصوّت البرلمان، في إبريل/ نيسان 2017، على تعديل قانون العقوبات على استهلاك المخدّرات، مانحا القضاء فرص الاجتهاد، والأخذ بالظروف المخفّفة التي قد ينتج عنها تلافي عقوبة الحبس.
وفق صندوق مكافحة الإدمان الحكومي المصري، بلغت نسبة الإدمان على المخدّرات في مصر 2.4%، ونسبة التعاطي 10% (ما يفوق النسبة العالمية البالغة 5%)، ويحتل تعاطي الحشيش المركز الأول بنسبة 54%. أما دعوات بعض رجال السياسة والمال إلى تقنينه، بدعوى عائداته الاقتصادية، فجوبهت، ولا تزال، بهجومٍ رسميٍّ ومجتمعي واسع، على أرضية تهديد الحشيش السلم المجتمعي، ليبقى لسان حال الحشاشين هناك يقول: "إن كان حلالا فنحن نشربه، وإن كان حراما فنحن نحرقه".
ظاهرة الحشيش مشكلة اجتماعية، وهو بمصطلحات الصحة النفسية استخدام اضطرابي، ينبغي البحث عن أسبابها في بيئات عربية لم تعد آمنةً من الفقر، والقهر، وخيبات الأمل، نتيجة الفشل في تحقيق التنمية الشاملة، وتغييب العدالة الاجتماعية، وفرص العمل، والتفاوت المتعاظم بين الأغنياء والفقراء، ناهيك عن التفكّك الاجتماعي، وعدم القدرة على التكيّف، ما يدفع عددا متزايدا من المواطنين إلى الهروب من الإحباط إلى عالمٍ من الهلوسات، بحثا عن لذّةٍ مفقودةٍ في نعيمٍ زائف. والتعامل مع هذه الظاهرة "ثروة وطنية" إن هو إلا فرصة تجارة جديدة لأنظمةٍ عربية، ونخبها السياسية، والشبكات المتحالفة معها، والتي لم تتوان يوما عن الاتّجار بمواطنيها في مختلف أسواق السياسة والمال.
لماذا ينجرف الناس وراء لذة في نعيم زائف؟ لعل فيلم "الكيف" لمخرجه علي عبد الخالق (1985) يجيب عن هذا السؤال على لسان سليم البهظ (جميل راتب) تاجر المخدرات، بقوله: لأن "الدنيا ساطلاهم قبل ما يتسطلوا". لا يخلو الفيلم الذي صوّر عالما غنيا للكيف من طرفة وفكاهة، واستقرّت عناصره في الثقافة الشعبية المصرية، ربما جذب الجمهور نحو الكيف أكثر من أن يحاول ردعه.
يبقى الحشيش كيفا آمنا، طالما لم يثبت بعد أن أضراره تتعدّى أضرار الكحول والتبغ، وإن كان تعاطيه، كما يذهب مختصو الصحة النفسية، قد يؤدي، على المدى الطويل، إلى إحداث تغيرات دائمة في الدماغ، مسبّبا اضطراباتٍ نفسية للمتعاطي، أي يحوّله إلى مسطول. لكنها نتيجة كانت متوقعة أيضا في ظل سياساتٍ عربيةٍ اجتماعية وتنموية، أرادت تخديرنا بحشيشة إعلامية مغشوشة، فوهم السياسة دائما أشدّ خطرا من نعيم الكيف الزائف. المفارقة أن هذه السياسات نفسها أرادت إقناعنا منذ 2011 أن تلك الجماهير التي خرجت إلى الشوارع لتعبر عن وجعها، قد خرجت تحت تأثير مؤامرة خارجية، توزّع الحشيش، وغيره من مخدّرات، بالمجّان.
بالإضافة إلى الشعور بالعظمة، والثقة العالية في النفس، هناك النشوة المصحوبة بالضحك، اختلال إدراك الزمن والمسافات، زيادة نصوع الألوان وزيادة الحساسية للأصوات، الهلوسات البصرية والسمعية، القدرة العالية على ملاحظة التفاصيل التي قد تثير قلقا وتوترا.. جميعها أعراض تنجم عن تعاطي الحشيش.
يحكي بودلير، في كتابه "النعيم الزائف"، تجربته مع الحشيش، فيصف حالة الفرح والبهجة العارمة، حيث الكلمات البسيطة، وأكثر الأفكار تفاهةً، يغدو لها بالنسبة لك أشكال جديدة عجيبة، لتتزاحم في ذهنك نوعياتٌ من السخافات المضحكة، وتغدو للأشياء الخارجية، ببطء، مظاهر غريبة شاذّة، تتحوّل صورا مشوّهة، فيبدو أن للأصوات ألوانا، والألوان كأنها موسيقى، لترى نفسك الشجرة التي تتمايل أمامك، والطائر الذي يحلّق فوقك في السماء...
سعى الإنسان، منذ القديم، إلى اللذة، وارتبطت وسائل اللذة بالمقدّس، فتذهب أساطير الهندوس إلى أن الإله شينغا يأتي بنبات القنّب من المحيط، لتستخرج منه باقي الآلهة الرحيق الإلهي مخفّف الأحزان. والحشيش في الصين القديمة هو واهب السعادة، واستخدم في الطقوس البوذية (التانترا) من أجل تسهيل التأمل، كما تسجله أوائل كتب الطب والصيدلة الصينية علاجا لأمراضٍ عديدة.
عربيا إسلاميا. تحدّثنا الروايات التاريخية، وأدب الرحلات، أن الحشّاشين (فرقة من الإسماعيلية النزارية، قادها حسن الصباح) كانوا يمارسون عمليات الاغتيال تحت تأثير الحشيش. ومهما كان حظ تلك الروايات من المصداقية في ميزان النقد العلمي التاريخي، فإنها، في كل حال، تعكس شهرة الحشيش في القرن الحادي عشر. أما انتشاره على نطاق واسع في القرن الثالث عشر، فدفع ابن تيمية، الذي رأى فيه مؤامرةً ضدّ الأمة يحيكها التتار، إلى حسم الجدل الفقهي حوله بإعلان تحريمه. وأفرد الفقيه الشافعي بدر الدين الزركشي (1344- 1392م) له كتابا هو "زهر العريش في تحريم الحشيش". وفي العصر المملوكي، احتكر متنفذون تجارة الحشيش، ومعها منصب ضامن الحشيش الذي يتاجر به لحساب الدولة، لكن الظاهر بيبرس أدرك خطر تحويل المجتمع إلى جمعٍ من كسالى، عديمي الإرادة، فصادر ما استطاع من حشيش القاهرة، وأحرقه، ومنع تجارته. وألقى المقريزي (1364م - 1442م) اللوم على المتصوّفة، إلا أنه أقرّ به أيضا مشكلةً اجتماعيةً تفشّت في المجتمع المصري.
تُدرّ تجارة الحشيش اليوم مليارات الدولارات في العالم سنويا، وبات الحشيش فاعلًا في العلاقات الدولية، ونشاطًا رئيسيًا لتمويل عمليات حكومات، ومليشيات مسلّحة. انتهت الجهود الدولية والمحلية للقضاء عليه بالفشل، لتقوم أكثر من 26 دولة حول العالم بتقنين زراعته، وتشريع استخدامه في الأغراض الطبية، أو الترفيهية، أو كليهما معا. أما الدول العربية، فتفاوتت سياساتها في التعاطي مع تلك الظاهرة بين ملاحقة وإتلافٍ ومصادرةٍ واعتقال، وبين غضّ نظر وتواطؤ ورشى.
يمضي لبنان بخطواتٍ حثيثةٍ نحو تشريع زراعة الحشيش لأغراض طبية، متوقعا عائداتٍ بمليار دولار سنويا، لكن هذه "الثروة الوطنية" مع دولةٍ ضعيفة وفساد، قد تخرج عن السيطرة تجارة واستهلاكا، لتضرّ مثلا بمزارعي القنّب لصالح الساسة الذين لم يفوا بوعودهم لهم، بتوفير زراعات بديلة. وفي المغرب، تستقطب سياحة الحشيش سنويا آلاف السياح من طالبي الكيف، وساهمت في العام 2016 بنحو 23 مليار دولار من إجمالي الدخل القومي. وتصدّى رئيس الحكومة السابق، عبد الإله بنكيران، لمطالبة حزب الأصالة والمعاصرة، المعارض، بتقنين الحشيش، مراعاةً لمناطق فقيرة واسعة تعيش على زراعته، ويُلاحق أبناؤها قضائيا. أما الرئيس التونسي، الباجي قائد السبسي، فوعد في أثناء حملته الانتخابية ثلاثمائة ألف تونسي من متعاطي الزلطة (الحشيشة) بتعديل العقوبات المشدّدة عليها، ليصوّت البرلمان، في إبريل/ نيسان 2017، على تعديل قانون العقوبات على استهلاك المخدّرات، مانحا القضاء فرص الاجتهاد، والأخذ بالظروف المخفّفة التي قد ينتج عنها تلافي عقوبة الحبس.
وفق صندوق مكافحة الإدمان الحكومي المصري، بلغت نسبة الإدمان على المخدّرات في مصر 2.4%، ونسبة التعاطي 10% (ما يفوق النسبة العالمية البالغة 5%)، ويحتل تعاطي الحشيش المركز الأول بنسبة 54%. أما دعوات بعض رجال السياسة والمال إلى تقنينه، بدعوى عائداته الاقتصادية، فجوبهت، ولا تزال، بهجومٍ رسميٍّ ومجتمعي واسع، على أرضية تهديد الحشيش السلم المجتمعي، ليبقى لسان حال الحشاشين هناك يقول: "إن كان حلالا فنحن نشربه، وإن كان حراما فنحن نحرقه".
ظاهرة الحشيش مشكلة اجتماعية، وهو بمصطلحات الصحة النفسية استخدام اضطرابي، ينبغي البحث عن أسبابها في بيئات عربية لم تعد آمنةً من الفقر، والقهر، وخيبات الأمل، نتيجة الفشل في تحقيق التنمية الشاملة، وتغييب العدالة الاجتماعية، وفرص العمل، والتفاوت المتعاظم بين الأغنياء والفقراء، ناهيك عن التفكّك الاجتماعي، وعدم القدرة على التكيّف، ما يدفع عددا متزايدا من المواطنين إلى الهروب من الإحباط إلى عالمٍ من الهلوسات، بحثا عن لذّةٍ مفقودةٍ في نعيمٍ زائف. والتعامل مع هذه الظاهرة "ثروة وطنية" إن هو إلا فرصة تجارة جديدة لأنظمةٍ عربية، ونخبها السياسية، والشبكات المتحالفة معها، والتي لم تتوان يوما عن الاتّجار بمواطنيها في مختلف أسواق السياسة والمال.
لماذا ينجرف الناس وراء لذة في نعيم زائف؟ لعل فيلم "الكيف" لمخرجه علي عبد الخالق (1985) يجيب عن هذا السؤال على لسان سليم البهظ (جميل راتب) تاجر المخدرات، بقوله: لأن "الدنيا ساطلاهم قبل ما يتسطلوا". لا يخلو الفيلم الذي صوّر عالما غنيا للكيف من طرفة وفكاهة، واستقرّت عناصره في الثقافة الشعبية المصرية، ربما جذب الجمهور نحو الكيف أكثر من أن يحاول ردعه.
يبقى الحشيش كيفا آمنا، طالما لم يثبت بعد أن أضراره تتعدّى أضرار الكحول والتبغ، وإن كان تعاطيه، كما يذهب مختصو الصحة النفسية، قد يؤدي، على المدى الطويل، إلى إحداث تغيرات دائمة في الدماغ، مسبّبا اضطراباتٍ نفسية للمتعاطي، أي يحوّله إلى مسطول. لكنها نتيجة كانت متوقعة أيضا في ظل سياساتٍ عربيةٍ اجتماعية وتنموية، أرادت تخديرنا بحشيشة إعلامية مغشوشة، فوهم السياسة دائما أشدّ خطرا من نعيم الكيف الزائف. المفارقة أن هذه السياسات نفسها أرادت إقناعنا منذ 2011 أن تلك الجماهير التي خرجت إلى الشوارع لتعبر عن وجعها، قد خرجت تحت تأثير مؤامرة خارجية، توزّع الحشيش، وغيره من مخدّرات، بالمجّان.