حسان فرحاني (2/ 2): "عندما أصوِّر أحرص على التقاط ما يُربك حساباتنا"

24 فبراير 2020
فرحاني: للفكاهة في المغرب الكبير لمسة خاصة (ستفانو غيدي/Getty)
+ الخط -
في وثائقيّه الجديد، "143 شارع الصحراء"، يُصوّر الجزائري حسان فرحاني مليكة (الشخصية الأساسية)، متبنّياً مقاربة فنّية سديدة، قوامها مبادئ ثلاثة: إبراز تعقيد شخصيّتها، وتلافي اختزالها في قالب العاطفية أو النسوية، وغير ذلك من وجوه التناول التبسيطي، والتزام المسافة المناسبة، تفادياً لوطء خصوصية السيدة وحميميتها، بما في ذلك الإفصاح عن ماضيها، فقط بقدرٍ يسمح بمواصلة تخيّل شخصيّتها، ثمّ تبنّي نظرتها الخاصة للوجود، للقطع مع منزلقات تصوير الصحراء بشكل الـ"كليشيه" المُحيل إلى بطاقات البريد وإعلانات وكالات تشجيع السياحة. حتّى رهان قرب افتتاح محطّة بنزين على بعد بضع عشرات الأمتار من مطعمها، المهمّ في معادلة الحبكة، لا يورده المخرج إلا بمقدارٍ يجعلنا نحسّ بمدى هشاشة وجودها وانتمائها إلى فصيل "الأشياء" الماضية في طور التلاشي.

بفضله، فاز فرحاني بجائزة "أفضل مخرج واعد" في "مهرجان لوكارنو السينمائي الـ72" (7 ـ 17 أغسطس/ آب 2019)، قبل عرضه في الدورة الـ18 (29 نوفمبر/ تشرين الثاني ـ 7 ديسمبر/ كانون الأول 2019) لـ"المهرجان الدولي للفيلم بمرّاكش"، بعد عامٍ على نيله جائزة "ورشات الأطلس" لأفضل مشروع فيلم في مرحلة التطوير.

(*) نشعر بهذه التفرّعات الممكنة. لكن الجميل أنّك تلامسها فقط قبل تفلّتها نحو مكان آخر، فلا نحسّ أنّنا إزاء مخطّط.
هذا صحيح جداً. حتى عندما أصوّر، أحاول تجديد نظرتي، وعدم استغلال الشيء نفسه دائماً، والإطار نفسه، والمقاربة نفسها، والفكرة نفسها. أحرص على أن يكون هناك، في كلّ لقطة، شيء ما يربك حساباتنا. إلى ذلك، هناك مشاهد فكّرت بها، ومُوضّبة على شكل أفلام قصيرة داخل الفيلم. من ناحية ثانية، الصعوبة التي واجهتنا في المونتاج، بحكم أنّه كتابة نهائية، كامنةٌ في إيجاد توازن بين ما نكشفه عن مليكة، وحياتها ومغادرتها شمال الجزائر. كانت لديّ مادة إضافية يمكن أن أحكي بواسطتها تفاصيل عن حياتها في الشمال، لكنّي قرّرت الاحتفاظ بمناطق الظلّ لأنّها أكثر إثارة للاهتمام برأيي، بحكم أنها تمكّننا من مواصلة تخيّل مليكة. الصعوبة الثّانية تحديد من سنحتفظ به من سائقي الشاحنات، وما الذي يتحدّثون عنه؟ هذا مهمّ. الطبقة الثالثة من المونتاج صعبة: قصّة محطّة البنزين. هذه طبقات ثلاث للمونتاج، كان ضرورياً الموازنة بينها.

(*) حول طبقة سائقي الشاحنات، نشعر بنيّة تبنّي جمالية "ميكروكوزم" الجزائر، مع استحضار سائقين للسياسة. هذا المشهد المضحك للغاية، حيث تنفر مليكة من مجموعة من الإسلاميين. أكان هذا معياراً يُحدّد اختياراتك بخصوص هذه الطبقة؟
من بين أمور أخرى. لكنّي اعتمدت أساساً على ما ينبعث منهم، وما يقولونه، وما يتمخّض أثناء التصوير. لم يكن اختياري الأول أن أنتقد أوضاع البلد مباشرة. لكن، عندما نقوم بطرز الفيلم قليلاً، نصل إلى هذه الأشياء بشكل ارتدادي. بعد ذلك، هناك مَشاهد تردّ على أخرى. مثلاً بخصوص مشهد الإسلاميين الذي تحدّثت عنه، لم أستطع الاقتصار عليه وحده، فجاء بعده مباشرة مشهد "الدرويش"، الذي يمثل تصوّراً مختلفاً للإسلام، والذي يُوازن إلى حدّ ما المشهد السابق.

(*) هناك لمسة الفكاهة، التي شعرتُ أنّك حريص عليها للغاية، والتي تمثّل سمة مهمة من الشخصية الجزائرية.
نعم، إنّها خاصة بالمغرب الكبير، في الواقع. في الجزائر والمغرب وتونس، هناك حسّ طرافة يختلف تماماً عن الفُكاهة الغربية. أعتقد أنّنا نضحك من أنفسنا أكثر.

(*) ساهم هذا كثيراً في السحر الذي لعبته مليكة عليك، وفق اعتقادي. حسّ فُكاهتها، وابتسامتها أيضاً.
هذا واضح، خفّة الدم والابتسامة. أحياناً، تغدو مليكة ممثّلة، تؤدّي دورها الخاص. تقوم بما يشبه "ميزانسين" لشخصيّتها. كلّما تقدّم الفيلم، تطوّر تصوّرها لشخصيّتها. أعطتنا أشياء مختلفة تماماً. بالإضافة إلى ذلك، يتحوّل الفيلم، في الجزء الثاني، إلى شيء أكثر جنوناً، وأكثر "روائيّة"، فنذهب إلى شيء مختلف عن البداية.

(*) يُذكّرني هذا بالمشهد المؤثّر، حيث تضع وجهاً لوجه مليكة، التي تتذكّر ابنتها، والرجل، الذي يحكي كيف يبحث عن أخيه المفقود في الصحراء. مشهد مثير للاهتمام، خاصةً عندما يقول الرجل لاحقاً أنّ ما حكاه لم يكن صحيحاً.
الرجل ممثّل جزائري يُدعى سمير الحكيم، جاء إلى التصوير من دون أن تدري مليكة بذلك. كنتُ أرغب في تجربة شيء من هذا القبيل، أنْ أحقن بعض الكتابة داخل شيء واقعي. كان الأمر أيضاً لمحة إلى فكرة فيلم، كنتُ أنوي إنجازه مع الممثل نفسه. لذا، قلتُ لنفسي إنّ هذا هو الوقت المناسب للتجربة، حين اتّضح لي أنّها تتوافق بشكل كبير مع لحظة من الفيلم، تحدّثت مليكة فيها عن رجل كان يبحث عن أحد أفراد عائلته في الصحراء.

(*) ولكنّها تفطّنت إلى أنّ الأمر لم يكن صحيحاً.
نعم، أحسّت بهذا. لديها إحساس مفرط بمعدن الناس. شيء مذهل يجعلها تحسّ فوراً بما يحاك وراءها.

(*) هذا يُشارك في تغذية استعارة القديسة.
بالضّبط. لديها نوع من البركة، كما يُقال.

(*) يُمكننا أنْ نرى في ذلك أيضاً نوعاً من الفراسة التي طوّرتها لحماية نفسها، بحكم أنّها امرأة تعيش بمفردها وسط الفلاة.
هي تعيش هناك منذ 25 عاماً. الأمر يتطلّب قوّة نفسية لا تُصدّق لاحتماله. اليوم، تتمّ معاملتها باحترام. لكن، قبل 25 عاماً، كان الأمر صعباً للغاية، خاصة أنّ بلدة "المنيعة"، القريبة منها، معروفة بكونها منطقة زاخرة باللصوص وقطّاع الطرق. إنّها امرأة شجاعة جداً.

(*) هناك أيضاً اختيار أحبّه كثيراً عندك، يتعلّق برفض السهولة والبديهية. أتصوّر أنّ مخرجاً "عادياً" كان سيُظهر مطبخ مليكة في المشهد الثالث على أبعد تقدير. لكن، معك أنت، يُترك هذا إلى النهاية، فلا نرى المطبخ إلاّ لماماً.
نعم، نراه بشكل خاطف. هذا صحيح جداً. في الواقع، بالنسبة إليّ، هذا حيّز للخصوصية، والمكان الذي تنام فيه مليكة أيضاً. ندخل بتروٍ كبير إلى أماكن كتلك. منحتنا مليكة مساحة المقهى، وهذا يهمّني أكثر من أيّ شيء آخر. يصل مشهد المطبخ بموازاة مشهد الممثّل، حيث أفصح بدوري عن مطبخ الفيلم نوعاً ما. بالنسبة إليّ، هذا المشهد التخييلي ـ الوثائقي وسيلة لإظهار كيف أتصوّر الفيلم الوثائقي. هناك السؤال الرائع الذي تثيره مليكة، بقولها "الناس يكذبون لكنّهم لا يحسنون ذلك"، وفي قولها قضيّة السينما الوثائقية برمّتها. هي هناك حقاً. إنّه السؤال نفسه الذي عالجته في فيلمي السابق، وعبّرت عنه بقول للشخصية الرائعة عمّو: "بخصوص الكذب، أنا لا أكذب. حقيقة، لا أقع فيه". هذان السؤالان أساسيان في كيفية صنع فيلمٍ وثائقي.

(*) يُذكّرني هذا بعبارة واردة في "الزمن المستعاد" لمارسيل بروست، تقول: "أنا لا أطلب منهم أن يكون ما يحكونه حقيقياً، بل أن يجعلوني أصدّقه".
هذا جميل. أعضّد ذلك بعبارة لسرفانتس أحبّها كثيراً: "ماذا تهمّ القصّة، طالما أنّها تؤدّي إلى المجد".

(*) رائع أنْ نذكر مَعْلَمتين من أدب الخيال، في حديثنا عن الفيلم الوثائقي: "البحث عن الزمن المفقود" و"دون كيشوت". ختاماً، تواجدك في "المهرجان الدولي للفيلم بمرّاكش" تتويج لقصّة رائعة عشتها، بحكم أنّ مشروع "143 شارع الصحراء" مُنِح هنا، العام الماضي، جائزة أفضل مشروع في مرحلة ما بعد الإنتاج، برسم ورشات الأطلس التي ينظّمها المهرجان لإفادة سينمائيي منطقة أفريقيا والشرق الأوسط. كيف عشتَ هذا؟
أنا سعيد جداً في كل مرّة آتي فيها إلى المغرب أو تونس، لشعوري أنّي بين أهلي. لكن، في الوقت نفسه، هناك شيء آخر مختلف ومُغْنٍ. كما قلتَ، هناك تجربة ورشات الأطلس، الغنيّة جداً، لمناقشة المشاريع ولقاء مخرجين آخرين.

عندما أخذ موظّف المطار جواز سفري، رأى أنّ تاريخ وصولي هو نفسه تاريخ وصولي السابق، لكن مع فاصل زمني لمدة عام، فهتف مستغرباً: "مرّ عام بالضبط منذ مجيئك". رائع رؤية الطريق التي سرت عليها، في الفترة الممتدّة بين تلك اللحظة السحرية، عند نيلي الجائزة هنا العام الماضي، وردّة فعل الجمهور على عرض الفيلم اليوم.
المساهمون