حروب الخصيان

11 نوفمبر 2014

لا يزال العربان يمارسون الإخصاء بغزارة على أنفسه م(Getty)

+ الخط -

أغلب الظن أن ذلك المعتوه الذي خصى نفسه، نكاية بزوجته، نتاج طبيعي لحالة إخصاء سياسي واجتماعي ونفسي تسود العالم العربي، منذ أفول شمس الأندلس. وبما أن الشمس تشرق من "الغرب"، في الزمن الراهن (قبل أن يحين موعد القيامة، لأن قيامة العرب تحديداً حلت منذ قرن على الأقل) فليس مستغرباً، والحال هذه، أن ينعكس واقع "الإخصاء"، ليصبح العربان المستهدفين به، بعد أن أضحوا عبيداً في بلاط العالم الآخر.

أقول ذلك، وأنا أعيب على أجدادنا الأندلسيين، ومن بعدهم العثمانيين، ما كانوا يقترفونه، بحق بعض أسراهم من الصقالبة والأفارقة من إخصاء جسدي، ليصبحوا، بعد ذلك، خدماً في بلاط الملوك والأمراء والأثرياء؛ ليضمن الأخيرون العفّة لحريمهم من زوجات وجوارٍ وبنات، ولا يعنيني ما قدم هؤلاء الملوك والسلاطين من إنجازات وفتوحات، فلا أعترف بإنجازات تقوم على البيض المهشم، بدليل أن تلك الإنجازات سرعان ما تهشّمت وتكسرت، أيضاً، وغدت تاريخاً نلوذ به كلما تفقدنا أعضاءنا "المبتورة".

عموماً، لا يزال العربان يمارسون الإخصاء بغزارة، ليس على أسراهم، هذه المرة، وإنما على أنفسهم، ويتجلى ذلك في العلاقات السياسية القائمة بين الأنظمة وما تسمى المعارضات العربية، بل وبين المعارضات نفسها، وهذا الأهم والأخطر. وانسجاماً مع البيض المهشم، نجد حالياً من هذه المعارضات من يلجأ إلى إخصاء نفسه، نكاية بطيف سياسي آخر من المعارضة، على غرار ما حدث في مصر حين تحالفت معارضات قومية ويسارية، عرفت بعدائها الشديد لنظاميّ مبارك والسادات، مع سليلهما الجديد، عبدالفتاح السيسي، لا لشيء سوى من نكاية بالإسلاميين الذين تفوقوا عليهم بانتخابات الرئاسة والبرلمان، فأصبحوا على استعداد لإخصاء مبادئهم وأفكارهم، وكل ما كانوا ينادون به، ويعذبون من أجله، مقابل الشماتة بطرفٍ كان يفترض أنه حليفهم في النضال والسجون وثورة الربيع، وبدل أن يؤازروا هذا الحليف في محنته، ويقفوا إلى جانبه، حين سحقته البساطير العسكرية، رأيناهم يرتدون البزة العسكرية، ويشاركون الجنرال الجديد السحق والمحق.

ولست أستثني، في المقابل، أحزاباً وجماعات إسلامية أخرى معارضة، تحالفت، هي الأخرى، مع أنظمة عربية أخرى ولم تزل، عرفت باستبدادها المنافي للمبادئ الإسلامية السمحة، لا لشيء سوى للنكاية بالأحزاب اليسارية والقومية، وإلصاق تهم ليست بها، للتأليب وزيادة الأحقاد عليها، على غرار أن أعضاء تلك الأحزاب "ملحدون"، أو يسمحون بزواج الأخ من أخته، ويبيحون الزنا والخمر، متناسين أن استبداد الأنظمة التي يحاربون بسيفها أبلى على الأمة والإسلام من الموبقات التي يتهمون الآخرين بها.

وفي خضم هذا "الإخصاء" المتبادل بين المعارضات العربية، ظلت الأنظمة المستفيد الوحيد من البيوض المهشمة في بلاط الاستبداد، إذ سرعان ما تفتح ذراعيها، وتحضن الطرف المخصيّ، أملاً بإخصاء الطرف الآخر، وقد تسبغ على المخصيين امتيازات، كأن تسمح له بحق الدخول على حريمها، وتقلده شيئاً من المناصب الصورية، مثل "وزير السكك الحديد" في بلاد لم تدخل عصر القطارات.

لا يعلم المخصيون اللائذون بالأنظمة أنهم إنما يلجأون، في الواقع، إلى أطراف مخصية هي الأخرى، على بلاط التبعية للأقطاب الدولية. أنظمة خصاها الثنائي سايكس وبيكو، قبل أن يسمحا لها بدخول قصور الكرتون وأنظمة منزوعة القدرة على الوحدة والتحرير والتقدم، ويصبح مشهد المخصيّ اللائذ بالمخصيّ الآخر كمن ينشد الحليب من التيس، والأنكى أن الخصيّ الجديد لن يطول بقاؤه في قصر الخصيّ القديم، إذ سرعان ما يركله الأخير من النافذة، حين يضمن أن كل المعارضات في بلده باتت مخصية تماماً.

أغلب الظن أن ذلك "العاقل" العربي الذي خصى نفسه نكاية بزوجته، يعرف أنه كان مخصياً منذ ولادته، أعني منذ تولى الحاكم العربي بنفسه مهمة "تطهيره"، فتعمد أن ينزع مع "القلفة" كل إحساسٍ، يمكن أن يراوده يوماً بالاعتزاز والكرامة والتمرد.

EA8A09C8-5AE7-4E62-849E-5EBF1732C5FF
باسل طلوزي

كاتب وصحافي فلسطيني. يقول: أكتب في "العربي الجديد" مقالاً ساخراً في زاوية (أبيض وأسود). أحاول فيه تسليط الضوء على العلاقة المأزومة بين السلطة العربية الاستبدادية عموما والشعب، من خلال شخصيتين رئيسيتين، هما (الزعيم) والمواطن البسيط (فرج). وفي كل مقال، ثمة ومضة من تفاصيل هذه العلاقة، ومحاولة الخروج بعبرة.