حركة فتح الهرمة

09 سبتمبر 2016
+ الخط -
لم تكن حركة التحرير الوطني الفلسطيني (فتح)، منذ نشأتها في منتصف الستينات من القرن الماضي، بعيدةً، في بنيتها الأيديولوجية العامة وفي منهجية خطابها السياسي، عن الفكر الإسلامي. وترجع أصول عدد من قيادييها إلى حركة الإخوان المسلمين، وإن افترقوا عنها في تبنّي الأفكار السياسية المستندة إلى النص الديني والشرائع الفقهية، ذلك أن الحركة التي انتهجت خطاباً وطنياً جامعاً حاولت أن تجعل من هذا الخطاب عامل توحيدٍ لمختلف التيارات القومية والوطنية والإسلامية في صفوفها، بهدف استقطاب القوى الشعبية الفلسطينية المنتشرة في أماكن متعدّدة من فلسطين والبلاد العربية. نجحت حركة فتح، في بداياتها في تلك المهمة، ما جعلها الحركة الأقوى والأكبر في الحركة الوطنية الفلسطينية المعاصرة. وعلى الرغم من قيادتها، منذ نحو خمسين عاماً، منظمة التحرير الفلسطينية بفصائلها كافة، متنوعة الأيديولوجيات، إلّا أن حركة فتح كانت تحمل، في جسمها التنظيمي، تيارات مختلفة الخلفيات الفكرية، فكما ضمت تياراتٍ تؤمن بالفكر الإسلامي الإخواني، ولاحقاً بعد انتصار الثورة الإيرانية، ظهرت داخل الحركة اتجاهات تؤمن بالشيعية السياسية على النمط الإيراني، ضمت، في صفوفها، تيارات يسارية ماركسية متنوعة تروتسكية وستالينية وماوية، إضافة إلى اتجاه أُطلق عليه التيار الفيتنامي في مرحلة السبعينات، إضافة الى البعثيين بمرجعيات "البعث" المتناقضة في بغداد ودمشق، وبقايا من حركة القوميين العرب، وقوميين سوريين تخلوا عن حزبهم الأم الحزب القومي السوري الاجتماعي.
ويمكن القول إن حركة فتح مثلت بجدارةٍ، طوال العقود الماضية، التركيبة الطبيعية للشعب الفلسطيني المشتت، ببناه الاجتماعية والفكرية غير الموحدة، والتأثيرات التي حملها شتاته، نتيجة الثقافات المختلفة التي عاشها في دول اللجوء. وربما يكون هذا الأمر الذي جعل "فتح" الأكثر شعبيةً ونفوذاً من كل التنظيمات الفلسطينية التي قدّمت نفسها أحزاباً يسارية، من غير معرفة دقيقة بتركيبة الشعب الفلسطيني، وخصوصيته الاجتماعية وتنوعه الثقافي.
بعد رحيل الجيل المؤسس للحركة، موتاً أو قتلاً أو هرماً، وبعد الدخول في متاهات "أوسلو"، والتفسخ الراهن في بنية السلطة، أصابت "فتح" حالة من التآكل والتهتك، حتى ليحار المرء في وصف تلك الحالة، فلم تعد تلك الصفات الماضية التي ميزت الحركة تصلح اليوم في وصفها، فقد ظهر جيل جديد يقود الحركة، أو يحاول أن يقودها من غير تجربةٍ سياسيةٍ أو فكريةٍ، وتحول الصراع على قيادة الحركة إلى صراعٍ على السلطة نفسها، واقتسام مصالح سلطة تالفة ومهزومة، وخصوصاً في ظل حالة الانقسام الحاد الذي يعيشه الشعب الفلسطيني بين سلطتين، لا تمتلكان أي مقومات لتغيير موازين الصراع مع الاحتلال، ولا تمتلكان أي رؤيةٍ لتغيير الواقع الكارثي الذي يعيشه الفلسطينيون في الأراضي الفلسطينية والشتات. يعيش الفلسطينيون اليوم أسوأ مرحلةٍ مرت عليهم منذ النكبة، ولا تمتلك لا "فتح"، ولا "حماس" المنافسة على الهيمنة على السلطة الكاملة، القدرة على إحداث شقٍّ، ولو صغيرا في العتمة المحيطة بحياة الفلسطينيين على المستويات كافة. التفسخ الحاصل اليوم لا يشمل الرؤى السياسية فقط، وإنما يشمل الحياة الثقافية والاجتماعية. والمأساة الأشد كآبةً التي نعيشها اليوم أننا أمام حركة فتح، بوضعها المتهتك، تسعى إلى إعادة امتلاك ماضٍ ولّى إلى غير رجعة، فقد تبدلت الجغرافيا، وتغير التاريخ، وحُشرت الخيارات داخل الجدران الصلبة التي صنعتها إسرائيل، فلم يعد هناك مجال لمناورة خارج إرادة المحتل. وفي الوقت نفسه، وفي الجهة الأخرى، نحن أمام حركة حماس التي تسعى إلى امتلاك المستقبل بأدوات الماضي السحيق وأفكاره التي أثبتت تجارب الإسلاميين الراهنة تهافتها وكارثيتها.
لا ندهش في هذا الواقع المرير أن يسخر مسؤول فتحاوي من جماعة الـ "ميري كرسماس"، في إشارةٍ إلى مسيحيي فلسطين، سخرية هي الوجه الآخر لأصولية فاشلة وبلهاء.
8FEA7E0E-EB59-44E6-A118-ECD857E16E1C
نصري حجاج

كاتب ومخرج سينمائي فلسطيني، ولد في 1951، كتب في صحف في بريطانيا ولبنان والإمارات وفلسطين، أخرج عدة أفلام وثائقية، حاز بعضها على جوائز في مهرجانات دولية. نشرت له مجموعة قصص قصيرة في رام الله، وترجم بعضها إلى الانكليزية.