حرب اليمن وضرورة الحل السياسي
أصبح الحديث عن أسباب عملية عاصفة الحزم العسكرية التي تقودها السعودية ضد الحوثيين وحلفائهم في اليمن لا يفيد كثيراً في قراءة المشهد الراهن. العنوان الرئيسي للنزاع إقليميٌ متعدد الجوانب، هناك رغبة سعودية بمنافسة دينامية إيران، والتغلب عليها في منازلات إقليمية كبرى، بما يخفّف من سقف التوقعات الخاصة بتسوية يجري العمل على تحقيقها في الأفق بين طهران وواشنطن. بينما تنطوي التطلعات الإيرانية على رغبة في تدعيم نقاط الحضور في المنطقة، أو تطويرها، حتى لا تجبر، بموجب التسوية المتوقعة، إلى تقديم تنازلات تضعف من هذا الحضور، وتؤثر على إمكانات تمدّده.
إضافة الى أن إيران تحاول تعميم نموذج الفاعل المحلي الذي في مقدوره إدارة بنىً تنظيمية شبه دولتية، داخل عدد من كيانات المنطقة، فتُراهن لهذا الغرض على حالاتٍ، أو قوىً، أفرزتها الظروف الموضوعية لبلادها. و"أنصار الله في اليمن" (وهي حركة موجودة قبل الاحتواء الإيراني) ليست استثناءً على القاعدة. بينما تبغي السعودية، كما كانت، دائماً، منذ تأسيس المملكة، إلى إبقاء اليمن تحت سيطرتها، حتى يثبت الأمر لها في شبه الجزيرة العربية، ذات التمازج السكاني الذي بإمكانه تغيير الحدود في فترة اختلال موازين قوى، وتناسب متغيرات دولية ما؛ على أن الأبعاد الإقليمية للنزاع هي امتدادٌ عضوي لرواسب تاريخية. فالغارات التي تشن على اليمن تذكّر ببديهية يكاد ينساها بعضهم في خضم الحرب ومشهدها الكبير: هناك دولة ضخمة القدرة الاقتصادية تجاوِرُ أخرَى ذات وضعية بالغة السوء، وقد تمحورت سياسة الأولى حيال الثانية منذ عقود، على مبدأ الإبقاء على ضعفها، وتبعيتها لها. لا غرابة إذاً في دخول طرف ثالث ساحة الدولة الضعيفة، اقتصادياً وأمنياً، وترويج تطلعات سياسية فيها حول احتمالات مستقبلٍ زاهر. وتوضح هذه المعادلة، بإيجاز مبسط، العلاقة الثلاثية بين إيران والسعودية و"الوضع" اليمني بمكوناته المختلفة.
وللإنصاف، لم تكن الأزمة التي بلغها اليمن من مسؤولية الحوثيين فقط، فالاتفاق الذي أسفر عن عزل الرئيس السابق، علي عبدالله صالح، بإشراف خليجي، بعد حراك اليمن عام 2011، أتاح لصالح الإبقاء على نفوذه المادي والسياسي القوي في اليمن، كما تم إسقاط المتابعة السياسية والقضائية عنه. استغل الرئيس المخلوع ثغرات الاتفاق المذكور ببقائه داخل اليمن، لاسترجاع سلطته بأي شكل، وقد وجد قبولاً كبيراً في أكثر من مجال عربي، خصوصاً في ظل التنافس مع تركيا وقطر و"الإخوان المسلمين" الذي طبع الأجواء، عقب ثورات الربيع العربي. وساهم في تصدع حصون العالم العربي أمام الاختراقات الإيرانية، ما سمح للمزيد من التشظي والتوتر في كل من سورية والعراق وليبيا واليمن، وبشكل أقل في لبنان.
جاءت الخطوة السعودية، في جانب منها، في إطار السعي إلى معالجة أخطاء المرحلة السابقة وتداعياتها، منذ ثورات الربيع العربي. لكن هذه المواجهة، كما هو شأن كل مواجهة، تندلع بشكل ثم تنتهي بشكل آخر. تبدأ وفق توقع لمكاسب، ثم تنتهي بتداعيات أكبر منها. الأخطر في المواجهات العسكرية هو السقف الذي يتم وضعه لها، وحتى الآن، يتضح أن "عاصفة الحزم" ساهمت في تنشيط القوى والتكتلات اليمنية المناوئة للحوثيين. لكن هذا الوضع سيجبر الحوثيين على الاعتماد بشكل أكبر على إيران، ما سيزيد في تعقيد الصراع، وإعطائه أبعاداً جديدة، تصعب السيطرة عليها. لهذا، يجب أن لا تهدف هذه الحملة إلى القضاء على الحوثيين وإنهاء دورهم، فهذا يعني حرباً طويلة، إضافة الى أنه يبقى هدفاً مستحيلاً من دون "سورنة" اليمن وعرقنته".
محدودية أهداف الحملة، إذن، مطلب أساسي لإتمام المهمة الجديدة. فالأفق السياسي لـ "عاصفة الحزم" يجب أن لا يتخطى تعديل موازين القوى اليمنية، للسماح بمشاركة كل المكونات في توافق مشترك، وهذا يستوجب الاعتراف بالحوثيين والإقرار بحقوقهم ودورهم، وتثبيت الشرعية من جديد، وإقامة نظام عادل لكل الفرقاء. هذا سقف قد يبدو صعباً، لكن عدم بلوغه سيطيل أمد الحرب، ويجعلها بؤرة استنزاف تشبه، إلى حد كبير، الوضع في سورية والعراق.
من جهة أخرى، إن اتهام كل من له موقف مع أو ضد الحملة (عاصفة الحزم) بتهم العمالة والتبعية والطائفية سوف يحول دون استفادة المنطقة من نقاش مفتوح حول الأزمة اليمنية وآفاقها وسبل الخروج منها. لا أنفي مسؤولية إيران في توظيف اللغة المذهبية والطائفية، فهي وظفتها، على مر الفترات، بزخم. لكن، ينبغي، في الوقت نفسه، عدم الانجرار إلى صراع طائفي/ديني، يؤدي إلى التعدي على الحقوق وضياع الأوطان.
ليس النزاع في اليمن مذهبيّاً بين السنة والشيعة، في جوهره، والحوثيون غير موالين بالمطلق لإيران، حتى لو تلقوا منها الدعم والمساعدات. أزمة اليمن، بالأساس، هي صراع قبائل وعشائر بين جهة وجهة، وبين تهميش وعدالة، وبين جيل قديم وآخر جديد، وبين نظام بائد يقوده علي عبدالله صالح وشعب يُمنّي نفسه بانطلاقة جديدة ويعيش حالة تخبط شديد. لهذا، فالنظر إلى هذا النزاع من زاوية سنّي/ شيعي يتخطى ظروفه السياسية والاجتماعية.
في إطار هذه المواجهة الدائرة، ينبغي أن ينصب التفكير على إعادة بناء اليمن حاضراً، فالتورط في حرب بلا أفق، وبلا تصور لما سيحدث بعدها، مثل إعادة بناء الدولة واستعادة الأمن والاستقرار، سيترك آثاراً سلبية على الجميع، ما سيجعل مسلسل الحروب بلا نهاية. هذا التوجه متوفر بلا شك عند القيادة السعودية، لكن الحروب كثيراً ما تتجاوز التصور الأساسي، وتسحبنا نحو زواريبها التي يصعب الخروج منها. فاليمن يعاني من الفقر والهشاشة، بينما البطالة تتجاوز معدلات مرتفعة، ونصف السكان البالغين أميون، كما أن اليمن يحتل مراتب متأخرة على جدول التنمية الإنسانية. هذه كلها ظروف تساهم في إذكاء أتون حرب طويلة، وحالة توتر إقليمي، في ظل فشل الدولة وتفككها.
في الوضع العربي إرهاصات قوة وحركة. في الشرق الأوسط، يبرز في الجوار العربي النموذجان التركي والإيراني، مشروعين لكيانات إقليمية قوية تملك مؤسسات قوية، لكن النموذج العربي ينافس، أحياناً، من خلال الثورات بعد عام 2011، وأحياناً بانقلاب عسكري ضمن تصور ينتهي بتوتر أهلي، ومرة بتدخل السعودية لإخماد حريق ممتد. لهذا، يظهر المشروع العربي مأزوماً، بينما يزداد الشارع العربي احتقاناً وتطرفاً. المشهد كثير التعقيد، والتعامل مع الوضع اليمني يفرض تعاملاً متزناً مع الأوضاع الأخرى في سورية والعراق وليبيا، إضافة إلى النزاعات المستترة، ومشكلات العنف في مناطق تبدو مستقرة، لأن الأمر يتعلق بصراعات متداخلة، بمشهد ممتد عبر جبهات ومناطق. سيظل حلم بناء الدولة العربية على أساس من الديمقراطية والمواطنة الحقة مدخلاً لبناء المناعة العربية في الفترات المقبلة. لأن التجارب أثبتت أن البديل عن الديمقراطية واحترام الحقوق والحريات والتوزيع العادل للثروات هو التسلط الذي يولد التطرف والعنف وثقافة الكراهية. تزرع الحرب بذور الخراب، والمتضررون منها، دائماً، هم الشعوب والأوطان. لهذا، يجب أن يتم حصر الحرب الدائرة في اليمن داخل إطار لا تحيد عنه، بينما تظل سبل الحوار ممهدةً من أجل استعادة التوازن المفقود.