في أحد أحيائها القديمة والتراثيّة، تخبئ الأشرفية شرقي بيروت، حديقة عمّرت لأكثر من مئتي سنة. "جنينة اليسوعية"، هي أرض وهبتها الكنيسة لبلدية بيروت، والتي حولتها بدورها إلى حديقة عامة وسط حي سكني أسمته البلدية "الرميل". رغم الإهمال الظاهر في الحديقة، يقصدها الزوار من كبار السن في الصباح الباكر، لحظة فتح أبوابها في الخامسة صباحاً، حيث يمارسون رياضة المشي حفاظاً على لياقتهم، إذ تشكّل بقعة صحيّة في الوسط البيروتي الملوّث في معظمه.
يدخل أبو الياس (80 عاماً) إلى الحديقة، يلقي السلام على شرطة البلدية، ويتوجه مباشرة إلى تمثال السيدة العذراء، يتلو صلاته، ويبدأ بممارسة رياضة المشي. يقول أبو الياس لـ"العربي الجديد": "كنت طفلاً عندما بدأت أتردد على الحديقة مع الأهل. مرّت الحرب علينا، وكانت الحديقة متنفسنا الوحيد. هنا في هذه الحديقة، علمت أطفالي الحفاظ على الشجر، وحب الحيوانات. هل تعرف أن الحديقة اليوم مهملة لدرجة لا تُطاق. منذ شهر انتهى عقد إلزام دائرة الحدائق في البلدية، بالحفاظ على الهدوء وضبط الزوار. هل تعرف بأنَّه منذ سنة تقريباً، كانوا قد رمموا الحمامات، واليوم هي في حالة يرثى لها". ينهي أبو الياس كلامه، ويكمل دورته في المشي الصباحي.
حوالي الساعة الثامنة صباحاً، يدخل مسنّ آخر، يمشي متكئا على عصاه، وتلحق به قطط من أمامه، ومن كل ناحية وصوب. يصل سمير إلى مقعده اليومي، وهو بالكاد يلتقط أنفاسه. يحمل علبة لحم مخصصة للقطط، وينادي عليها من أجل إطعامها. يرجع سمير إلى مقعده، ويجلس متنهداً ومنادياً على جورج، ليجلب له كوباً من القهوة يرتشفه، ريثما يصل صديقه جاك، المفجوع مؤخّرا بابنه الشاب. يقول سمير: "الجنينة كانت جنينة. كانت الناس تلتقي ببعضها، تتحدَّث وتشرب القهوة والعصير، كانت أرتب وأنظف. اليوم، أنا أعتبرها داراً للمسنين. من فترة توفي صديقي ميشال، وقبله مات أصدقاء كثر لي، أشعر بأننا ننتظر دورنا. وأعتقد بأنه عند موتنا، ستموت الحديقة أيضاً. نحنا حراس الحديقة وذاكرتها. هل تعرف أن القطط هي روح هذا المكان؟ هل تعرف أن كل قط يعرف اسمه لما أنادي عليه؟ هل تعرف كم قط مات تحت عجلات السيارات؟ أرواح بريئة تزهق، وأنا أقول لنفسي، سألتقي بهم في السماء".
وصل جاك، صديق سمير منذ الطفولة، وهو يحمل قطعة من الكرتون ليضعها حاجزاً بينه وبين المقعد الخشبي. يقول جاك بأنّ المقاعد الخشبية متّسخة هنا وغير نظيفة، حتّى أنه أصيب ببعض الفطريات قبل فترة بسببها. فجأة، تدمع عينا جاك قائلاً: "لا أستطيع الجلوس في البيت. الحديقة هي المكان الذي أهرب عليه. مات ابني بسكتةٍ قلبيّة عن عمر أربعين سنة. وتحوَّل البيت إلى مجلس لصوره والذكريات معه. والدته تسكن في صورهِ، صورة صورة. كان يعيش معنا، لم يتزوج. رحل فجأة وباكراً. كان ناجحاً في عمله. هذه الحديقة، هي مرحلة ما قبل القبر أو التحضير له. الرواد من جيلنا يموتون تباعاً، نحن محاطون بالموت، ولم نعد ما كنا عليه. أنظر إلى هناك، هل ترى تلك النسوة؟ هربن من بلادهن خوفاً من الموت. يأتين يومياً مع أطفالهن. يجلسن سويّة ولا يختلطن بالنساء من هذه البلاد، وتراهن منزويات منعزلات".
عمل جاك في شبابه مديرا لعدة مصارف لبنانية. يتحدث عن علاقته بمواطنين من دول عربية أخرى، ومنها سورية، ويحزن للوضع المزري الذي وصلت إليه الأمور حاليًا. يقول: "أتوجه صوب المكتبة. أرى طفلين يرسمان على دفترٍ. أطفال النزوح يرسمون الماضي، أو ربما الحاضر والمستقبل. وفجأة يتركان مكانهما خوفًا من أصوات أناس في المكان المحيط".
حديقة اليسوعية هي صورة صغيرة عن حال البلد هنا. حال البلد كحال سجن كبير تنقصه الصيانة وإعادة التأهيل وترسيخ مفاهيم العيش الاجتماعي. قبل ثلاث سنوات أرادت البلدية تحويل حديقة اليسوعية إلى موقف للسيارات. اتحد الأهالي وافترشوا أرضها، ومنعوا أي آلية من الدخول إلى حرمها.