حدود الدور الإسرائيلي في الأزمة السورية

23 يناير 2017
+ الخط -
مع أن التساؤل عن الدور الإسرائيلي في الأزمة السورية لم يسقط من التداول، طوال الوقت من عمر هذه الأزمة المأساوية، ولم يغب عن المناقشات الساخنة بين المتناظرين على الشاشات وصفحات الصحف، إلا أن العدوان الإسرائيلي السافر على مطار المزة العسكري، أخيراً، أعاد طرح السؤال القديم ذاته، حول مدى هذا الدور المختلف على مداه وعمقه وفعاليته، قياساً بتدخلاتٍ خارجية أخرى لا حصر لها.
ولعل من المفارقات الفارقة في هذه الأزمة التي تشارف على إنهاء عامها السادس أن النظام الأسدي، وكذلك المعارضة بكل أطيافها السياسية والعسكرية، لم يتفقا على أي شأن من شؤون هذه الكارثة، إلا على أمر واحد، هو أن لإسرائيل يداً طويلة في إدامة هذه المأساة، كونها المستفيد الأول من استمرارها على هذا النحو المدمر لمقومات آخر بلدٍ، كان يصف نفسه رأس حربة محور المواجهة، على ما في هذا القول من مجازٍ سياسي، وتجاوزاتٍ على الحقيقة التي سقطت في الاختبارات الميدانية المتتالية.
وفيما يتهم نظام الأسد معارضيه بأنهم مدعومون من إسرائيل، ويبالغ إلى أبعد الحدود في توظيف استقبال مستشفيات إسرائيلية جرحى مدنيين ومقاتلين سوريين، ويعتبر ذلك دليلاً قاطعاً على وجود علاقةٍ مشبوهةٍ بين كل من "عدو الداخل" وعدو الخارج، تتهم المعارضة، في المقابل، النظام بأنه محميٌّ من إسرائيل وحلفائها الغربيين، وأن هذه الدولة النافذة في دوائر صنع القرار الدولي هي التي تحول دون تزويد الثوار بالأسلحة النوعية من الغرب، المتأثر بقوة المنطق الإسرائيلي القائل إن الشيطان الذي نعرفه أفضل من الشيطان الذي نجهله.

بكلام آخر، بدا أن من مصلحة الطرفين المتصارعين على حاضر سورية ومستقبلها، التهويل على الآخر بوجود دور إسرائيلي حاسم، يلعب ضده في مسار الأزمة الدامية، وهو ما جعلهما يتبادلان رمي هذه التهمة من ملعب هذا إلى ملعب ذاك، استدراراً لعواطف رأيٍ عام كاسح، داخل البلاد وخارجها، يحرّم كل اتصالٍ أو تعاونٍ مع العدو القومي المشترك، ويجرّم الطرف المشتبه بوقوف إسرائيل خلفه، من دون أي نقاش، أو تحرٍّ أو استقصاء، مهما كانت قضيته عادلة.
ومع أن إسرائيل ضربت، عشرات المرات، خلال هذه الأزمة، أهدافاً داخل الأراضي السورية، وخرجت، في بعض الأحيان، عن قاعدة الغموض الذهبية المتبعة، من خلال التصريح أو التلميح بأنها تقف وراء بعض الاستهدافات المركّزة، إلا أن مجموع هذه الاعتداءات، على مدى السنوات الست الماضية، لم يؤد إلى إحداث فارقٍ في الصراع، أو قلب موازين القوة بين الأطراف المتحاربة، كما لم تسفر هذه الضربات عن حدوث تغيراتٍ نوعيةٍ لصالح المعارضة، ولم تضعف، في الوقت نفسه، من قدرات النظام على مواصلة حربه الضارية ضد من درج على تسميتهم بالمجموعات الإرهابية.
ولا أحسب أن إسرائيل كانت عاجزةً عن تغيير قواعد اللعبة الداخلية السورية، لو أن مصالحها كانت تقتضي إقحام نفسها في إطار هذه الأزمة التي جاءت مفاعيلها كريح إسناد لأشرعة السفينة الإسرائيلية المبحرة في مياهٍ مواتية، فقد كان لسان حال قادة المؤسسة الإسرائيلية يتمنى، طوال الوقت، للطرفين المتحاربين تحقيق مزيدٍ من النجاحات ضد بعضهما بعضاً، إلى أن يتم تقويض كل مقومات الدولة المشرقية المتبقية مما كان يعرف باسم الجبهة الشرقية.
وباسترجاع المواقع المستهدفة من إسرائيل، خلال السنوات الطويلة الماضية، يتضح أن ضرباتها التي لم تسفر عن حدوث تحوّل يعتدّ به على مسرح العمليات، كانت أقرب إلى العمليات الجراحية المحدودة، تخص مخازن أسلحة، أو شحنات عسكرية، ناهيك عن قيادات ميدانية تنتمي لحزب الله، وذلك كله في نطاق ما تعتبره إسرائيل خطوطاً حمراء، يحظر فيها إدخال أسلحة كاسرة للتوازنات القائمة، لا سيما السلاح المضاد للطائرات أو السفن أو الأسلحة الكيماوية.
إذا كانت مثل هذه القراءة صحيحة، وهي كذلك إلى أن يثبت العكس، فمعناها أن التدخل الإسرائيلي في الأزمة السورية ظل محدوداً، وغير ذي تأثير على مجرى التطورات المتفاقمة، بل يمكن القول إنه كان أقل التدخّلات الإقليمية والدولية حجماً وأثراً، من دون أن يعني ذلك أن إسرائيل ليست أحد أهم اللاعبين في سائر مفاصل هذه المنطقة المستباحة، أو أنها صاحبة دور هامشي يمكن تجاهله، أو عدم أخذه بعين الاعتبار في أية مرحلة من المراحل المقبلة.

غير أن السؤال الذي لا مفر من طرحه الآن يتعلق بالسبب الذي أدى إلى زيادة الاعتداءات الإسرائيلية، بعد الدخول الروسي على خط الأزمة السورية، واستئثار موسكو بمعظم أوراق هذه اللعبة الدرامية؟ وكيف أدى إنشاء غرفة عمليات روسية – إسرائيلية مشتركة، لتنسيق العمليات في الأجواء السورية، إلى فتح شهية قادة تل أبيب أكثر من ذي قبل، لضرب مزيد من الأهداف في بلد بات تحت المظلة، أو قل الوصاية الروسية؟ إذ يبدو أن روسيا التي اعترضت بشدة على ضربةٍ أميركية وقعت "بالخطأ" على قوات الأسد في دير الزور، لا تشعر بالحرج أبداً، ولا تبدي أية ممانعة، ولو حتى لفظية، إزاء تصاعد الضربات الإسرائيلية ضد أهدافٍ سورية منتخبة، الأمر الذي يسمح بافتراض أن التنسيق المشترك بين سلاحي الجو الروسي والإسرائيلي، يتضمن غض البصر، إن لم تكن الموافقة المسبقة على مثل هذه الضربات التي لا تقدّم ولا تؤخر في مجرى التطورات على الأرض، من منطلق إدراك موسكو محدودية الدور الذي تقوم به إسرائيل في أزمةٍ لها ديناميات داخلية، تعمل بقوة دفع ذاتية، أشد فاعليةً من كل المؤثرات والتدخلات الخارجية.
خلاصة القول الذي قد لا يعجب المهولين بالدور الإسرائيلي في هذه الأزمة، وهم في النظام وفي المعارضة، أن الدولة ذات التاريخ العدواني الحافل تعتبر أقل الدول المتدخلة تدخلاً، ليس تعففاً أو زهداً أو رغبةً في النأي بالنفس، وإنما لأن دورها مصانٌ من الأميركيين والروس معاً، وحصتها محفوظةٌ عندما تحين لحظة تقاسم النفوذ والمصالح. وفوق ذلك، فإن تصغير دورها طوعاً في الأزمة يؤمن لها أحد أهم الأهداف الاستراتيجية الكبرى، وهو أنه كلما طالت الأزمة، وتفاقمت أكثر، زادت من المكاسب التي تحقق نفسها بنفسها، بما في ذلك استمرار الأسد في دمشق منهكاً وجباناً، لا حول له ولا قوة.
45AB6A9D-38F9-4C2C-B413-9E5293E46C8D
45AB6A9D-38F9-4C2C-B413-9E5293E46C8D
عيسى الشعيبي

كاتب وصحافي من الأردن

عيسى الشعيبي