حدود الانتفاضة العفوية

07 سبتمبر 2015
+ الخط -
مشهد المظاهرات المطلبية، التابعة لحملة "طلعت ريحتكم"، في ساحات وسط بيروت، تبدو مغرية برفع سقف التوقعات، بالنسبة لكثيرين انتظروا هذه اللحظة طويلاً، والمقصود بهذه اللحظة: تظاهر مجموعات كبيرة من الناس، من مختلف الطوائف، ضد الفساد وسوء الإدارة الحكومية، من دون حشدٍ من أحد الأحزاب المشاركة في التركيبة السياسية القائمة. هذا التمرد على الحكومة في لبنان، والمنظومة السياسية ككل، أغرى بعضهم برفع سقف التوقعات، وترويج قيام "ثورة" في لبنان، على غرار ما حصل في بلدان عربية عام 2011، كما أن زعامات سياسية في البلاد حذّرت من "الربيع العربي" في لبنان. وفي المحصلة، تبدو "انتفاضة الشباب" مغرية بالحديث عن ثورة، لكن الواقع العربي نفسه، في السنوات الأربع الماضية، وضع حداً لمثل هذه التصورات. 

يشكّل الحراك في لبنان ردة فعل على فساد السياسيين الذي وصل إلى ترك النفايات تجتاح الشوارع، من أجل إعادة ترتيب الصفقات حولها بين الزعامات الفاسدة. ردة الفعل هذه عفوية، تماماً كما حصل في أكثر من بلد عربي، وقاد إلى رفع شعار إسقاط النظام، وهي ليست مؤامرات، كما يردد محللون لبنانيون، لا يرون غير المؤامرة مفسّراً لتحركاتٍ كهذه، إذ إن طرح فرضية المؤامرة وحدها يعني إنكار وجود أوضاع سيئة بحاجة إلى التغيير، وعدم الاكتراث بحجم آلام الناس من الفساد والقمع، وكل الممارسات الكارثية التي مارستها أنظمة عربية، واستحقت ردة فعل شعبية عفوية ضدها.
لكن هذا الحراك العفوي الذي يُسعد من يرفض الارتهان لسلطة الطوائف، لا يمكنه قلب المعادلات القائمة، أو إيجاد حالة ثورية في لبنان، ولا مواجهة النظام الطائفي اللبناني الذي ما زال يتمتع بقوة حقيقية، تنبع من وجود شبكات منافع، قائمة على أسس طائفية، أي أن الطائفية في لبنان تعطي التعريف لطبيعة المنفعة الاقتصادية، والغطاء لتقاسم المغانم والامتيازات الاقتصادية بين زعماء الطوائف، وإمداد رعايا الطوائف ببعض هذه المنافع، عن طريق زعيم الطائفة. من هنا، نجد أن الحالة الطائفية كانت، على الدوام، أقوى من الاحتجاجات النقابية، الخارجة عن حدود الطوائف، لأن الحالة الطائفية جمعت المنتفعين والمتضررين من الأوضاع الاقتصادية، تحت سقفٍ سياسي واحد، ضمن خطاب الهوية المذهبية، وربطتهم جميعاً، بمصلحة الطائفة. ولا ننسى أن هذه الشبكات الطائفية محمية بتوافقات وتوازنات إقليمية ودولية، تعزز الوضع الحالي.
في مواجهة هذا النظام الطائفي، لا يمكن أن ينجح تحرك عفوي يمثل حالة غضب يتم تنفيسها في الشارع، عبر حفلة صاخبة، وإذا لم يتبلور مشروع سياسي يساري، يتصدّى لقيادة الحراك، ويطرح بديلاً للمنظومة الحالية، ويعيد صياغة المؤسسات على أسس جديدة، يمكنه من خلالها إنهاء الحالة الطائفية بالتدريج، والتحول نحو هوية جامعة للمواطنين، تعبر عنها مؤسسات الدولة (ولا بديل هنا عن هوية لبنان العربية)، وإنهاء السياسات الاقتصادية النيوليبرالية، وشبكات الفساد التي أنهكت الناس، فإن الواقع الطائفي مستمر، وفي غياب مشروع سياسي من هذا النوع، وأحزاب وتنظيمات قادرة على بلورة هذا التصور، سواءً من الأحزاب العلمانية التقليدية، أو تنظيمات جديدة تنبثق من قلب التحركات، لن ينجح هذا الحراك في إحداث تحول "ثوري".

لا بد أن نراجع ما حدث من ثورات عفوية في الوطن العربي، لنخلص إلى أن الحماسة التي أبداها كثيرون، ومنهم كاتب هذه السطور، للثورات الشبابية العفوية التي تغيب عنها القيادة السياسية، والأيديولوجيا الواضحة، أو التصور السياسي الواضح للبديل، لم تكن في محلها. كان الاعتقاد أن هذه الثورات قادرة على إنتاج تحول ديمقراطي، لكن بقاءها عفوية، وعدم وجود قيادة سياسية ساهم في تهميشها، في المرحلة اللاحقة، وفي ابتلاعها من الأنظمة والأحزاب التقليدية معاً.
ما شهدناه أن هذه الثورات العفوية لم تقم بأكثر من هز النظام القائم، ولم تتمكّن من إنتاج تَنَظُّم سياسي، قادر على ملء الفراغ الذي تركه اهتزاز النظام. وهنا، جاء دور الأحزاب التقليدية التي أخفقت في فهم طبيعة اللحظة الثورية، وهي إما لم تكن قادرة على إيجاد حد أدنى من التوافق بينها، وعلى رفض العودة إلى هياكل النظام القديم، والتحالف معها، كما في الحالة المصرية، أو كانت مجرد مجموعاتٍ لا تملك قرارها، ولا تستند إلى قوة حقيقية على الأرض، وليس لها زخم وطني، أو قرار وطني، مثل مجموعات الائتلاف الوطني السوري التي لا مكان لها، اليوم، في التفاوض حول مستقبل سورية، حيث تقوم القوى الإقليمية والدولية، اللاعبة في الساحة السورية، بالتفاوض بشكل مباشر. انتهى الأمر إلى ملء الفراغ من بقايا النظام القديم من جهة، والتنظيمات الجهادية التي تنازع الدولة شرعية احتكارها العنف، من جهة أخرى.
الانتفاضات العفوية، مفيدة للضغط، لكنها لا تغيّر الأنظمة، ولا تقوم بثورات ناجحة. وفي حالة لبنان، مثلاً، الحراك الشعبي في أقل الأحوال، كرنفال يُظهر رقصاً وغناءً غير طائفيين، وفي أفضل الأحوال، حراك شعبي يمكن أن يضغط على النظام، لتحقيق مطالب معيشية. إنها حدود قوة الانتفاضة العفوية التي تخلو من تصور سياسي، أمام شبكات سياسية واقتصادية، متجذّرة في مؤسسات الدولة.

9BB38423-91E7-4D4C-B7CA-3FB5C668E3C7
بدر الإبراهيم

كاتب سعودي. صدر له كتاب "حديث الممانعة والحرية"، و"الحراك الشيعي في السعودية .. تسييس المذهب ومذهبة السياسة".