حدث في جمهورية "نور عينينا"

10 نوفمبر 2015

"حلقات مسلسل القمع الأسود الدامي تتواصل"(Getty)

+ الخط -

إذا كنت ممن يصدقون حواديت المسار الديمقراطي، ويؤمنون أن "القمع بالنيات"، وينتظرون أن تصبح مصر قد الدنيا، بعد أن نقوم بتنظيفها من كل من يرفض أن يهتف "السيسي رئيسي"، فلن تُقلق هذه الحكاية منامك كثيراً، لأنه لن يوقظك من منامك إلا أن يمسك الظلم بطرف ثوبك، حين يصيبك الدور.

أما إذا كنت ممن يؤمنون أن التقدم بعيد عن "شنب وضفاير" من يرضون بالظلم، وأن ما سيجعل مصر قد الدنيا أن نكف عن المعايير المزدوجة، ونتوقف عن فعل الوساخات التي كان "الإخوان" يهللون لها ويبررونها، وإلا فإننا سنذهب جميعا إلى جحيمٍ لا قاع له، فأنت لست محتاجاً لأن تسمع هذه الحكاية، لأنك تعرف أنها ليست حكاية خرافية مما يحكى للأطفال، لكي يناموا، بل هي واقع أليم مرير، يحدث ما هو أسخم منه كل يوم، لكنك لا تسمع عنه، لأن الإعلام يمارس، بجدارة، مهمته في الغلوشة وسوق الهبل على الشيطنة، والتعتيم على كل ما يمكن أن ينبه الناس إلى الجرائم التي ترتكب باسم الوطنية، بعد أن كان، ولا يزال، شاطراً نبيهاً مستيقظاً لفضح الجرائم التي ترتكب باسم الدين، ليس حباً في فضح مجرميها، بل لأن مجرميها لم يتفقوا جيداً مع من يملك وحده، دون غيره، حق قطع الإرسال.

الواقعة التي ستقرأ هنا ما تسمح به المساحة من تفاصيلها المحزنة، نشرتها الصحفية آيات قطامش في موقع "مصر العربية"، وعلى الرغم من بشاعتها التي تستدعي التحقيق الفوري، لا أظنك رأيت، في الأيام الماضية، مذيعاً تلفزيونياً يولول بها في برنامجه، أو ضيفاً يمسك بصورة ضحيتها، ملوحا بها للكاميرات، وهو يكاد يُصاب بالفتاق من فرط الغضب، ولم تسمع مسؤولاً أمنياً، يعلن عن إحالة المسؤول عن الواقعة إلى المحاكمة، ولا أظنك سترى ذلك، بعد أن أعيد نشر ما تسمح به المساحة مما كتبته آيات قطامش، والذي أتركه لضميرك، وأنت وضميرك.

"الحاجة محروسة بدوي، صاحبة الـ62 عاما التى صعدت روحها إلى بارئها، فجر يوم الجمعة فى الساعة الثانية والنصف بعد منتصف الليل، والمعروفة بين أهالى المنطقة بـ"أم حسن". لم يشفع لها كبر سنها في رحمتها من بطش زوار الفجر، 10 دقائق كانت كفيلة بإنهاء حياتها، تلقت خلالها ضربتين على الرأس بظهر طبنجة أحد ضباط "أمن الدولة" الذى اقتحم المنزل ليلاً، بحثاً عن ابنها المحامي الذي يدافع عن المعتقلين السياسيين فى إطار مهام عمله.

في شارع الإعتماد بساقية مكي، حيث منزل الأم، روت لنا زوجة نجلها هاني ما حدث بالتفصيل فى هذا اليوم، كونها الوحيدة الموجودة في المنزل مع أم هاني "لم يكن بالبيت سوى والدة هانى زوجي، حيث تقطن في الطابق الأول، وأنا وأولادي فى الطابق الثاني. كان أحفاد "أم هاني" نائمين، والسكون يغطى المكان، ومع دقات الـثانية إلا ربع صباحاً فجر يوم الجمعة الماضي، فوجئت الأم والزوجة بـ"خبط ورزع" على باب الشارع الحديد، وكأن القيامة قد قامت، وتحول شارع الاعتماد و6 أكتوبر إلى ترسانة مسلحة، حيث تراصت نحو 8 سيارات ترحيلات كبيرة مليئة بتشكيلات الأمن المركزي، وانتشرت القوات الخاصة، وهم ملثمون بزيهم الأسود المعروف، مرتدين الدروع الواقية، وأجهزة اللاسلكي، والكشافات، ومسلحين بالرشاشات والطبنجات ومعهم "أجنة كبيرة" استخدموها فى كسر باب الشارع الحديد".

وتابعت فى حسرة: "استيقظت والدة هاني مخضوضة على هذا الصوت، ونزلت لتفتح لهم الباب، لتفاجأ بأنهم كسروه ودخلوا، لم يعطوا لها أدنى اهتمام، رغم كبر سنها، وامتلأ المنزل عن آخره بضباط الداخلية والقوات الخاصة، يفتشون عن زوجي. وحينما رأت القوات تصعد إلى الطابق العلوي، حيث أقطن وأولادي، صعدت خلفهم لتكون معنا، إلا أن الضابط نهرها، وطلب منها النزول، ولم يمهلها الرد، وبطبنجته ضربها ضربتين على مقدمة رأسها، لتسقط جثة هامدة، وتجمع الدم فى مقدمة الرأس، فلم تأخذهم بها شفقة أو رحمة، وبعد سقوطها على الأرض لم يكترثوا لها، كما لم يلقوا بالا أو تتحرك قلوبهم لبكاء الأطفال أبناء زوجي وأحفاد الجدة التي نحسبها شهيدة". وأضافت: "دخلوا، فتشوا المنزل وغرف نوم الأطفال، وسط فزع الصغار، لم يجدوا زوجي، وأخبرتهم بأنه خارج مصر، وأعطيتهم التأشيرة ليروها فأخذوها، وكل تفاصيل بطاقتي، وغادروا المنزل. هرولت على السلم، لا أستطيع أن أتمالك أعصابي، وتجمع الجيران بعد رحيل الأمن، وطلبنا الإسعاف، لكن أم هاني كانت فارقت الحياة".

 "أعتبرها أمي لم أجد منها سوى كل الخير"، كلمات خرجت من زوجة هاني لتعبر بها عن قلبها المحترق من بطش الأمن، لافتة إلى أن "أم هاني" أدت صلاة العشاء جماعة فى المسجد، رغم أنها كانت انقطعت عن الذهاب لعدة أيام، بسبب البرودة القارسة التى لا يقوى جسدها على تحملها، وأخذت تحتضن أهالي منطقتها، وكأنها تودعهم، وكانت حريصة على قيام الليل، ولفتت إلى أن كلام المُغسلة لها خفف عليهم الكثير، وكان بمثل مؤشرات بأنها شهيدة بإذن الله؛ حيث رفضت المغسلة أن تغطى وجه أم هاني، حتى يراها أهل المنزل ووجهها مشرق، ووضع الجسد على ما هو عليه، رغم أن الساعة كانت العاشرة صباحا".

(مصر العربية) اتصلت بالابن الهارب هاني الأرنؤوطي المعروف بهاني سعيد، 37 عاما، والذي تبحث قوات الأمن عنه لتعتقله، قائلاً "كان خبر وفاة أمي صدمة كبيرة لي، الأمن المركزى جاء ليبحث عني لأني محامي المعتقلين السياسيين، وضحايا "النهضة"، حيث أدافع عنهم دون مقابل، وحينما لم يجدوني بالمنزل، قتلوا والدتي الكبيرة في السن دون أدنى شفقة". وأشار إلى أنه تم اعتقال حتى الآن 52 محامياً كل تهمتهم أنهم يدافعون عن المعتقلين السياسيين. "وبكره تشوفوا مصر". 

نشرت السطور السابقة بتاريخ 13 يناير/كانون ثاني 2014، في عمودي اليومي في صحيفة الشروق. وكالعادة، لم أتلق أي رد عليها، سوى الشتائم والإتهامات من شراشيح النظام المعتمدين والمستجدين، ولم يحدث أي تحرك رسمي بشأنها، إلا في أكتوبر/تشرين أول 2015، حين تعرض موقع (مصر العربية) للإقتحام من قوات الأمن، لإرهاب العاملين فيه، وعرقلة الموقع عن أداء عمله الصحفي، كحلقة في مسلسل طويل من انتهاكات حرية التعبير، كان آخرها ما جرى للصحفي المتميز، حسام بهجت، الذي يسعى النظام المباركسيسي للإنتقام منه، بسبب أعماله الصحفية المهمة ومواقفه السياسية والحقوقية المشرفة.

بالطبع، ليست حلقات مسلسل القمع الأسود الدامي التي تتواصل، الآن، بعيدة عما جرى للحاجة محروسة، والآلاف من أمثالها، الذين تم انتهاك حقوقهم طوال العامين الماضيين، بمباركة ودعم من عتاولة الصحافة والإعلام والثقافة الذين يحاول أغلبهم الآن أن يتملصوا من دورهم في صناعة الواقع القمعي المخيف الذي لم يبدأوا في انتقاده، إلا حين بدأ يهدد مصالحهم المباشرة وسلامتهم الشخصية، خصوصا حين أدركوا، مما حدث مع رجل الأعمال صلاح دياب، أن نظام السيسي لا يريد حلفاء وشركاء، بل يريد فقط خدماً وعبيداً. لكن، قطعا سيجد صلاح دياب من يعارض انتهاك حقوقه المشروعة، ويطلب له محاكمة عادلة، أو يتوسط للإفراج عنه، بعد أن يتعهد بسماع الكلام ودفع المعلوم والمشي جوه الحيط، وهي معاملة على الرغم من ظلمها، لن يحظى حتى بها ملايين من أمثال الحاجة محروسة الذين سيظل عليهم أن يتقبلوا الظلم والموت في صمت تام، منعاً لتكدير السلم العام، وحرصاً على أن تواصل البلاد تورمها بالظلم والفساد والجهل، حتى تصبح قد الدنيا.

 

605C8788-2DB9-4AE6-9967-D0C9E0A2AD31
بلال فضل
كاتب وسيناريست من مصر؛ يدوّن الـ"كشكول" في "العربي الجديد"، يقول: في حياة كل منا كشكولٌ ما، به أفكار يظنها عميقة، وشخبطات لا يدرك قيمتها، وهزل في موضع الجد، وقصص يحب أن يشارك الآخرين فيها وأخرى يفضل إخفاءها، ومقولات يتمنى لو كان قد كتبها فيعيد كتابتها بخطه، وكلام عن أفلام، وتناتيش من كتب، ونغابيش في صحف قديمة، وأحلام متجددة قد تنقلب إلى كوابيس. أتمنى أن تجد بعض هذا في (الكشكول) وأن يكون بداية جديدة لي معك.