حدث في إسبانيا

19 يونيو 2018
+ الخط -
لم تهتد البشرية إلى مفهوم القضاء، وإلى السلطة القضائية، إلا بعد معاناة كبيرة، وبعد تطور زمني ومعرفي وحضاري طويل، فقد كانت القوة وحدها محور العلاقات لدى أفراد الجماعات البدائية. كانت هي التي تنشئ الحق، ووحدها التي تحميه. ومع ارتقاء البشرية، بدأت الوظيفة القضائية تتبلور حاجة حتمية مرادفه للتطور الفكري، وبدأت تظهر وتتكون في صلب المجتمع الإنساني.
ظهرت السلطة القضائية مستقلة عن الحكومة، وعن سياساتها، وبدأت الدول تقسم نفسها الى دول عالم أول وثان وثالث، تبعا لقوة تطبيق استقلال سلطة القضاء فيها، وتبعا لتحقيق قانون حقوق الإنسان لكل مواطنيها، ولما تحققه الديمقراطية فيها من تنامٍ لحكم شعب نفسه بنفسه، وللاحتكام الدائم للقانون، ولبقاء قواعد الديمقراطية صلبةً وحقيقية تحمي الشعوب من إعادة إنتاج ديكتاتورييها، ومن الوقوع من جديد في سجن الاستبداد.
قبل أن تشردنا أحلامنا بهذه الديمقراطية، وبالحياة في بلاد تحكمها سلطة القانون والمؤسسات والعدالة، لم أكن أتخيل أن أعيش، بلحمي ودمي، تجربة ديمقراطية حقيقية، وأن أرى حكومة تنهار في لحظة، وبكل بساطة، من دون دماء واعتقال ورعب. حكومة تنهار فقط لأن القضاء أقر بأنها غير صالحة قانونيا وأخلاقيا للاستمرار في حكم الشعب، فحجب عنها ثقته، ما يعني هنا سقوط الحكومة خلال ساعات.
أعلنت المحكمة القضائية العليا في إسبانيا تورّط حكومة حزب اليمين الشعبي (الحاكم) في قضية فسادٍ، سميت في إسبانيا بقضية "جوتيل"، والتي فيها اتهم الحزب باستغلاله منصبه السياسي، وإنشاء حسابات سرية له، فضحتها قضية اختلاسه بعضا من أموال الدولة التي تصرف لأغراض تخدم المصلحة العامة.
وهكذا، وبناء على معطيات ووثائق قدمتها قيادة الحزب الاشتراكي الإسباني، حكمت المحكمة الدستورية في مدريد، بعد استجواب أعضاء من حزب الشعب اليميني الحاكم، بمن فيهم رئيس الحزب ورئيس وزراء إسبانيا، ماريانو راخوي، بصحة الادعاء المقدم، وبالتالي أقرّت، بالإجماع، سحب الثقة، في اليوم نفسه، عن أعضاء الحكومة التي سقطت في اليوم التالي بشكل أوتوماتيكي، وسلم راخوي الساقط على رئيس الوزراء الجديد بيدرو سانشيز (46 عاماً)، أستاذ الاقتصاد السابق، الذي قال "اليوم نكتب صفحة جديدة من تاريخ الديمقراطية في بلدنا". وخرج راخوي من البرلمان من الباب الذي دخل منه إلى الطريق المؤدية إلى التحقيق الكامل والسجن، من دون أية اعتقالات، أو قتل، أو تدمير مدن على رؤوس سكانها، من دون أن يمضي أعضاء المحكمة عمرهم تحت الأرض، من دون أن يموت كل من المدّعي والقاضي والشهود والجمهور تحت التعذيب.
كل أمور الدولة تسير بالنظام نفسه، وكل مؤسساتها تتابع عملها كأن شيئا لم يكن، التعليم والصحة والامتحانات والشوارع والنظام وعمال النظافة وكل شيء.
لا أدري لماذا عبر كل الشهداء السوريين إلى ذاكرتي، هكذا دفعة واحدة.. لماذا جاء إلى ذاكرتي وجه القاضي العسكري، نايف فيصل الرفاعي، وهو ضابط برتبة نقيب في 2012/3/22، بعد أن استفسر عن مصير شقيقته هنادي التي اعتقلت تعسفياً قبله بأيام، فأمضى فترة من اعتقاله في عدد من الأفرع الأمنية، ومنها مطار المزة العسكري، قبل تحويله إلى سجن صيدنايا العسكري، بتهمة التآمر على النظام، ليحُكم عليه بالسجن 15 عاماً. وفي 27/4/2014، وصل نبأ استشهاده تحت التعذيب إلى أهله، بعد سنتين وشهرين من اعتقاله. وصل إلى حلمي وجه المحامي خليل معتوق، جاري في صحنايا والمحامي المعروف جدا لمعتقلي الرأي في سورية، الناشط في حقوق الإنسان، المعتقل لدى نظام الأسد منذ خمس سنوات، ولا أحد يعرف عنه شيئا، لأنه كان يدافع عن سجناء الرأي. جاء الى حلمي وجه المحامية جيهان الأمين التي كنت ألتقيها في صحنايا، وهي تتبنى الدفاع عن الأطفال المعتقلين، واعتقلتها قوات الأمن، وضربتها في الشارع أمام كل الناس.
كيف ومتى يمكن لبلادنا التي تعيش فينا، بلادنا التي هربنا من الموت فيها، ولم تهرب منا لحظة، كيف ومتى يمكن لها أن تصل إلى ما وصلت إليه إسبانيا التي عاشت حربا أهلية قاتلة، والتي جربت ديكاتورية فرانكو بعدها أربعين عاما؟ منذ سقوطه، نهضت كعملاق كان محبوسا، وبدأت ترمم نفسها، وتسير بخطى ثابتة قوية وسريعة إلى غدها. .. بماذا يمكن أن أجيب الشاب الإسباني، صديق ابني في المدرسة، حين سأله، بكل بساطة وثقة: لماذا لم تحجب المحكمة الدستورية السورية الثقة عن حكومة بشار الأسد التي اعتقلت أطفال درعا وعذبتهم؟ لماذا لم تفعل ذلك، وتسقطها من اليوم الأول، بدلا من موت كل هؤلاء الأطفال هناك تحت ركام منازلهم، أو موتهم في البحر، وهم يحاولون الوصول إلينا؟
E928EA8B-DC47-4385-9F66-8409C3A306CB
E928EA8B-DC47-4385-9F66-8409C3A306CB
ميسون شقير

كاتبة وإعلامية سورية

ميسون شقير