قليلاً ما نجد دراسات توثق وتؤرشف الإرث المعماري العراقي، والبغدادي على وجه الخصوص، أو تؤطّر مراحل التطور في الأنساق التي تعاقبت على العمارة البغدادية. وحتّى مرحلة الحداثة التي أنجزت مباني متميزة، ما زال قسم منها شاخصاً "بصعوبة" إلى الآن، يمكن عدّ الكتب العربية التي تؤرخ وتُنظّر في هذا المجال على أصابع اليد الواحدة.
هنا يأتي كتاب الناقد خالد السلطاني "عمارة الحداثة في بغداد.. سنوات التأسيس" (عمّان، دار الأديب)، ليحاول سدّ ثغرة في المكتبة المعمارية العراقية، موثقاً لأهمّ مراحل تطور العمارة في بغداد. وفي مقدمة كتابه، يلفت السلطاني إلى ندرة المراجع العراقيّة، الأمر الذي دفعه إلى البحث عن مراجع في الجامعات الغربيّة وفي كتب المستشرقين.
يؤرّخ السلطاني لمفهوم حداثة البناء في بغداد منذ عشرينيات القرن الماضي، أي بالتزامن مع العراق الكولونيالي الذي تأسست فيه المَلكيّة عام 1921. ويصف صاحب "مئة عام من عمارة الحداثة" هذا التطوّر بأنه "متسم بالجدّة والاختلاف، وحتى القطيعة عن سياق الممارسة البنائية السابقة له".
يعتبر السلطاني أن المفهوم الموضوعي لعمارة الحداثة في بغداد "لم يقتصر على ما تمّ تحقيقه من منجزات بنائية ملموسة وواقعية، وإنما شمل أيضاً ما تمّ تداوله من أفكار ومخطّطات ومواضيع بنائية لم يتم إنجازها". وبهذا المعنى، فإنّ تاريخ عمارة الحداثة البغدادية والعراقية "لا يعني فقط حاصل ممكنات المباني التي تحققـت، بل يعني كذلك حاصل ممكنات المباني التي لم تحقّق، وكان يمكن لها أن تتحقّق".
ورغم أن الفكرة السابقة تفتح على ممكنات كبيرة في البحث والدراسة، يحاول المؤلّف تحديد الزمن الذي يعتبره إطاراً لدراسة مفهوم ومضمون الحداثة المعمارية في بغداد، فيلتفت إلى مرحلتين مهمّتين؛ تتمثّل الأولى في المرحلة التي تمتد من العشرينيات وحتى الأربعينيات، أمّا المرحلة الثانية فتلك التي بدأت منذ نهاية الحرب العالمية الثانية وحتى نهاية الخمسينيات.
ويتتبع صاحب "حوار مع العمارة" الحركة الجينية لعمارة الحداثة في رحم العقود الخمسة التي سبقت ولادتها. ويعتقد أن الفترة التي ابتدأت عند منتصف النصف الثاني من القرن التاسع عشر وحتى دخول القوات البريطانية بغداد في مارس/آذار 1917، هي الفترة النموذجية التي يمكن لمنتجها المعماري وعناصرها التكوينية أن يسهما في ترسيخ مبادئ الحداثة المعمارية لاحقاً.
كما يلتقط تأثير إصلاحات الوالي العثماني على بغداد مدحت باشا، مثل إزالة سور المدينة فاسحاً المجال للتوسع الحضاري، وإدخال نظام التسجيل العقاري "الطابو"، الذي يعتبره السلطاني "من أهم الأسباب التي نجم عنها تشكّل بُنية المدينة العمراني الجديد".
في الجزء الأول من كتابه، الذي جاء في ثلاثة فصول، يتتبع السلطاني الطرز المعمارية في الأبنية العامة والأبنية السكنية التي أسّست لانبثاق عمارة الحداثة فيما بعد، ويركز على عمارة الأبنية الدينية في مدينة بغداد التي تجلّى حضورها في كيفية "تنطيق سمات تصميمية معينة"، أضفَت فسحة محددة على تلك العمارة.
هذه السمات تتجسد في كيفية تسقيف أشكال القباب وفي استخدام هيئات مميزة للمنائر، وتوظيف خصائص الطابوق "الطوب" مع طرائق بنائه ورصفه، إضافة إلى استخدام الآجر المزجّج.
في الفصل الثاني، يتناول المؤلف عمارة العشرينيات، راصداً التحولات الكبرى التي طرأت على البيئة المبنية أثناء فترة الاحتلال البريطاني للعراق (1917 – 1921)، وعند تشكّل الدولة العراقية الحديثة (1921)، وقد عدّ الباحث هذه الفترة مهمة جداً في تاريخ بغداد المعماري، ويعزو ذلك إلى نماذجها التصميمية الجديرة بالتأمل "لجهة حلولها المعمارية عالية المهنية". ويشير السلطاني إلى عمارة جامعة آل البيت التي شيدت عام 1924 في منطقة الأعظمية في بغداد، فيعتبرها نموذجاً متفرداً ومفتتحاً لعصر حداثة العمارة في بغداد، إلا أنه سرعان ما يتأسّى على عدم إكمالها وتحوّلها إلى ضريح للملك.
في الفصل نفسه، يتناول الباحث في "الأكاديمية الملكية الدنماركية للفنون"، عمارة الحداثة في عقد الثلاثينيات. إنّها المرحلة التي تشكّل "استمراراً للأفكار المعمارية الجديدة التي نشأت وتكوّنت في العشرينيات"، وهي أيضاً "مرحلة نضوج تلك الأفكار وتكوين مبادئها وقيمها". إذ يصف الكاتب الفكر التخطيطي لهذا العقد بأنه "انقلاب تام وشامل على جميع قيم ومفاهيم التخطيط التقليدي"، الذي جُبلت عليه بغداد لفترة طويلة. وفيه وضع أول تصميم أساسي لبغداد 1936، وظهر المهندس المعماري العراقي المعاصر لأول مرة، كما تـم إنجاز مبان ذات لغة معمارية مغايرة.
ينطلق المؤلف في تحديد عمارة الحداثة البغدادية في الخمسينيات، وهي موضوع بحثه في الفصل الثالث، من كونها أعقبت نهاية الحرب العالمية الثانية، ويحيل التطور الكبير في المشهد المعماري إلى ما أُنجز من مفاهيم الحداثة الثقافية في عراق الخمسينيات في مجالات إبداعية كثيرة كالفنون التشكيلية والآداب والموسيقى وفي التعليم.
ويشير إلى بداية انتشار البناء العمودي الذي لم تعرفه بغداد منذ تأسيسها، حيث إن "المبنى الإداري لعمارة "سوفير" يتكون من أربعة طوابق، أعقبه تنفيذ جريء لمبنى عمارة "الدامرجي" التي وصل عدد طوابقها إلى رقم خيالي، ستة طوابق!".
ومن الطريف أن ينقل المؤلف ما رافق هذا الارتفاع في البناء من حكايات بغدادية "ترقى إلى مصاف الأساطير"، على الرغم من أن ثمة عمارات جديدة تجاوزت هذا الارتفاع كثيراً، مثل عمارة "الدفتردار"، أربعة عشر طابقاً، ومبنى "مصرف الرافدين"، خمسة عشر طابقاً.
والملاحظ في هذه الفترة من حداثة المعمار العراقي، بروز معماريين عراقيين يبدي المؤلف إعجاباً كبيراً بمنجزاتهم كقحطان عوني وجعفر علاوي ومدحت علي مظلوم ومحمد مكية ورفعة الجادرجي، على الرغم من استقطاب معماريين عالميين معروفين قدموا مشاريع مهمة في مسار المعمار العراقي مثل "دار الأوبرا" و"القبة السماوية"، إضافة إلى "مجمع جامعة بغداد".
المفارقة أن كلّ البنايات والمعالم المعمارية التي قدّمها السلطاني في سِفره الأكاديمي هذا حول العمارة البغدادية تحوّل اليوم إلى أطلال، فهو إمّا دُمّر أو أوشك، بدءاً من حروب صدّام حسين، وصولاً إلى احتلال بغداد في نيسان/ أبريل عام 2003، وليس انتهاءً بإهمال حكومات المحاصصة الطائفية المتعاقبة لأهميّة هذه العمارة. وسيبدو واضحاً، في بعض الصور التي يتخلّلها الكِتاب، حجم البشاعة التي لحقت بتلك الأبنية التي نُزع عنها الآجر العراقي، وأُلبست مادة "الأليكبوند" الملوّنة بفظاظة.