حتى لا يسود خطاب الكراهية

22 مايو 2015
+ الخط -
لم تعد هناك لغة للحوار العقلاني، أو الهادئ، في مصر، بعد أن تحولت الأزمة السياسية في البلاد إلى أزمة أخلاقية واجتماعية عميقة، لا تُسمع فيها إلا أصوات الغضب والكراهية والشحن النفسي، وتحركها دعوات صريحة للانتقام. نظرة سريعة على النقاشات الدائرة على مواقع التواصل الاجتماعي، خصوصاً "فيسبوك"، تكشف حجم هذه المأساة، ليس فقط على مستوى انتشار خطاب الكراهية واحتقار الآخر، وإنما أيضا على مستوى الأفكار وأطروحات الخروج من المأزق الراهن.
جزء رئيسي من هذه الأزمة يعود، بشكل أساسي، إلى "الحرب الإعلامية" الدائرة، والتي تُبث على الهواء مباشرة على مدار الأربع والعشرين ساعة، وتُستخدم فيها مواد وصور وتعليقات تصب جميعها فى خانة "الشحن" النفسي للمؤيدين والأنصار، وتقوم، في الوقت نفسه، بتفريغ شحنة الغضب والاحتقان، من خلال تسفيه الطرف الآخر وشيطنته. وما بين الحملة الممنهجة لتشويه الخصوم التي تمارسها الأبواق والأذرع الإعلامية الموالية للنظام الحاكم في مصر، و"إعلام الغضب" المحسوب على الإسلاميين ومؤيديهم، لم يعد هناك مكان لأي حوار عاقل، أو رؤية متزنة يمكنها أن تخرجنا من هذه الدائرة الجهنمية للاستقطاب والانقسام الذي يبدو أنه يسير بقوة نحو طريق اللاعودة.
وللأسف، تحول خطاب الكراهية من حالة تعبير عن الرفض والغضب، إلى حالة للارتزاق المادي وتحقيق المصالح. فبعض الذين يتبنون هذا الخطاب لا يعبرون فقط عن موقفهم السياسي والإيديولوجي، وهو أمر يمكن تفهمه، وإنما، في أحيان كثيرة، يهدفون إلى زيادة نسبة متابعيهم ومشاهديهم، وبالتالي، رفع أسهمهم وأثمانهم فى السوق الإعلامية. ولا ينطبق هذا الأمر على الإعلاميين فحسب، وإنما على الضيوف أيضا. وهنا أتذكر مواقف حدثت معي حين تمت استضافتي للتعليق في قناة فضائية، وقبل الخروج على الهواء، دار حوار بسيط بيني وبين أحد الضيوف، فوجدته يتبني لغة عاقلة ومتزنة. ولكن، ما إن أصبحنا على الهواء حتى تحول إلي شخص أخر مختلف تماماً عمّا كان عليه قبل دقائق، ما أصابني بالحيرة والذهول. وعندما سألته عن سر هذا التحول رد بأريحية: "الجمهور عايز كده". كان رده صاعقاً بالنسبة لي، وأنا الذي اعتقد دائماً أن الكلمة مسؤولية، وأن التزام الصدق في الحديث للجمهور أمانة لا يمكن التفريط فيها، مهما كان الثمن أو الإغراءات.
أما الطريف في الأمر أنه بمجرد أن يخرج صوت عاقل، أو أن تُطرح رؤية متزنة للخروج من الأزمة الراهنة، يتعرض صاحبها للهجوم من كلا الطرفين المتخاصميَن. فتنهال عليه اللعنات، وتلاحقه الشتائم، ويتم نعته إما بالخيانة والعمالة والتآمر، أو بالخنوع والجُبن، وأحيانا الارتداد عن الدين. لا يعطيك الطرفان، أو مؤيدوهم، أية فرصة لالتقاط الأنفاس، أو توضيح منطقك، وإنما يبادرون بالهجوم عليك. ولا يعرف كثير من هؤلاء الفرق بين الموقفين، الأخلاقي والسياسي. ويختلط عليهم الأمر في تقييم الآخرين، بحيث يصبح كل من هو ليس معهم فهو بالضرورة ضدهم.
وبمرور الوقت، تصبح هذه الحالة جزءاً من الواقع، ويتحول خطاب "الكراهية" إلى مكون أصيل فى شخصية الأطراف المتنازعة وعقليتها، بشكل لا إرادي، ما يلبث أن يتحول إلى فعل مادي على الأرض، فيصبح الانتقام والتصفية والتخلص من الطرف الآخر الحل الوحيد.
لا أكتب هذا الكلام باعتباري "العاقل" الوحيد الباقي فى المدينة، أو من منطلق ادعاء امتلاك الحكمة وفصل الخطاب، مثلما قد يفسره بعضهم، وإنما أكتبه حزناً عما وصلت إليه الأوضاع فى مصر، وإطلاق جرس إنذار وصيحة بألا نترك أنفسنا أسرى لخطاب الكراهية من أي طرف، أو أن نصبح جزءاً، ولو بشكل غير مقصود، من ماكينة "صناعة الانتقام" التي تدفع بنا وبالبلاد نحو الانفجار.
A6B2AD19-AA7A-4CE0-B76F-82674F4DCDE4
خليل العناني

أستاذ العلوم السياسية والعلاقات الدولية في جامعة جونز هوبكنز الأميركية. عمل كبير باحثين في معهد الشرق الأوسط، وباحثاً في جامعة دورهام البريطانية، وباحثاً زائراً في معهد بروكينجز.من كتبه "الإخوان المسلمون في مصر ..شيخوخة تصارع الزمن".