وُلدت فكرة عمارة الباوهاوس مع كارثة الحرب العالمية الأولى؛ كان هناك عالم قديم ينهار ويحلّ محله عالم جديد من الصلب والإسمنت والمعدن. بدت الفكرة أول ظهورها يوتوبية، غير أنها انبثقت من جديد في فلسطين ككارثة أخرى، فقد شكّل أربعة آلاف مبنى أقيم على طريقة الباوهاوس نواة تل أبيب التي صمّمها معماريون يهود ألمان هاجروا إلى فلسطين، وفقاً للمصادر التاريخية، ورفعت تلك المباني على أمكنة فلسطينية أزيلت كما لو أنها لم تكن، ثم امتدت عملية الإزالة إلى الذاكرة والأرشيف تمهيداً للطوفان القادم.
"حمى الأرشيف"، يطلق مؤرخو الفن على ظاهرة اعتماد الفن المعاصر اليوم أكثر فأكثر على المادة الوثائقية، غير أن علاقة الفنان الفلسطيني بالأرشيف وسجلاته وذاكرته تبدو أكثر تعقيداً من سواها. وفي هذه المنطقة، يشتغل الفنان حازم حرب (1980)، ويظهر في معرضه "إصرار الذاكرة" وهو يعمل من موقع الفنان/ المحقق في الأرشيف.
يضمّ المعرض، وهو الأول له في بروكسل والمتواصل حتى نهاية الشهر في "غاليري مونتورو 12"، أعمالاً أنجزت ما بين 2015 و2019 من مجموعة "أركيولوجيا الاحتلال"، وسلسلة "بحيرة طبريا"، وهناك أيضاً أربعة أعمال جديدة بعنوان "خريطة الأرض"، أما التجهيز الرئيسي فهو "الباوهاوس كإمبريالية".
يبحث حرب بصرياً في "العمارة كوسيلة استعمارية وأداة قمعية"، كما يقول في حديث إلى "العربي الجديد": "عدت إلى أرشيف فلسطيني فوتوغرافي من الثلاثينيات، السنوات التي مهدت للنكبة، وهي عملية قامت على فكرتي الهدم والإلغاء ثم البناء والإحلال، فقد أقيمت المساكن الكونكريتية بطابع غربي هو الباوهاوس، وأنشئت أبشع أشكال البناء في تلك الفترة، قبل النكبة، أي أنه جرى التمهيد للاحتلال بهذه العمارة البشعة".
يعود الفنان إلى القدس، فنرى صورة المدينة من بعيد غارقة في لون رمادي ثقيل، ثمة مثلثات في أكثر من عمل، يصفها حرب بأنها "رمز الهيمنة والسلطة". غير أن صورة القدس البعيدة كررت على نحو استنفذها بصرياً، فكيف يتعامل الفنان مع هذه المسألة؟
يجيب: "أنا حذر في التعامل مع الأرشيف، أرفض النوستالجيا أولاً في سياق التحقيق التاريخي، فالأرشيف الفلسطيني بالذات متعلّق بإقصاء الذاكرة وإخفاء التاريخ، صحيح أن موضوع القدس كأيقونة فلسطينية تكرّر، لكن ما أفعله هو إعادة صياغة الذاكرة من زاوية التحقيق في التاريخ، كثير من الصور تُعرض لأول مرة أو توضع في سياق خارج الشاعري. استخدام القدس وضع مسؤولية كبيرة عليّ، فما حدث للمدينة معمارياً من الثلاثينيات إلى اليوم بشع جداً، لذلك تناولت تغيير الحدود والهيمنة بعيداً عن "كليشيهية" القدس".
يفصح حرب في أعماله عن التناقض بين الصورة الأرشيفية والواقع، فتضاف عناصر مثل الإسمنت بوصفه "أداة قمعية معاصرة"، إنها طريقته في تجسير الزمن بين الماضي والمتغيرات التي تعرفها المدينة اليوم. في المعرض أيضاً أعمال من سلسلة "بحيرة طبريا" أو بحر الجليل، يقول عنها حرب: "إنها مكان مهم جغرافياً ودينياً للمسيحيين والمسلمين، وفكرة الجغرافيا الفلسطينية جمالياً تكاد تكون مغيبة، فصور الصراع تهيمن على الذاكرة، لذلك حاولت أن أعيد الاقتراب من جماليات المكان، وقدمت أعمالاً أشبه بالبطاقة البريدية لمدينة لم نزرها".
بالكولاج والأرشيف يشتغل حرب، ويعيد أيضاً تصوير الصورة، وهذا يعني "إعادة وضع الصورة في سياق الزمن"، كما أنه غارق حالياً في التجريب في الأعمال ثلاثية الأبعاد، ويعد لمشاركته في "بينالي القاهرة" الذي سيقام خلال العام الحالي، بعمل ضخم من هذا النوع فيه صور أرشيفية ونحت أيضاً، وذلك لا يمنع أنه يجرب في تقنيات جديدة، ففي مجموعة "خريطة الأرض" يوظف تقنية الحفر بالليزر على الصورة.
درس حرب في روما، كان في الأساس رساماً ويميل إلى التعبيرية الألمانية، وهي مرحلة أخرج نفسه فيها من العمل في منطقة فلسطين بصرياً، حتى في مجموعته "هستيريا الحرب" لم يكن يتطرق إلى صراع بعينه، بل كان المشروع عن الحرب بالمطلق. كما قدّم مجموعة "البصيرة" التي اقترح فيها أن التجريد ليس فناً غربياً، بل إنه فن عربي وإسلامي، فأنتج سلسلة ضمت خمسة وعشرين عملاً معتمداً على الهندسة والفن الإسلامي إلى حد كبير.
يطرح الفنان مسألة جوهرية وهي أن "النضال الثقافي أصبح أقل"، من هنا يترتب على الفنان الفلسطيني المعاصر مسؤولية تقديم القضية وإبقاء العمل الثقافي في هذا الاتجاه حياً من دون أن يكون تقليدياً، بل لا بد أن يحمل روح العصر ولغته وتقنياته وأدواته، وهذه المسؤولية تزيد على الفنان الذي يعيش خارج فلسطين.
يقول حرب لـ"العربي الجديد": "أظن أنني لو بقيت في غزة ما كنت سأفكر في الأرشيف أو الأعمال المفاهيمية أو التاريخية، لكن حين تخرج تبدأ في رؤية أمور لم تكن مرئية بالنسبة إليك وأنت في الداخل".
كلّ أرشيف له شخصية فريدة، فالفنان اللبناني يشتغل على أرشيف الحرب الأهلية، والسوري يشتغل على أرشيف النظام والثورة، أما الفلسطيني فينهمك في أرشيف ثمة من اشتغل بشكل ممنهج على تدميره وإفنائه، عن ذلك يقول الفنان الفلسطيني: "في ظني أن الواقع السياسي اليوم يدفع الفنان العربي إلى التفتيش في الماضي، لكن لدي تحفّظ على فكرة النوستالجيا كدافع لاسترجاع الأرشيف، وتقديم الماضي بوصفه كان نعيماً، أنا أحقّق ولا أعرض الأرشيف كصورة، أفكّكه من زاوية نقدية".
في عمله "مشاهد غير مرئية وخرسانة المستقبل"، قام حرب بعمل تحقيق بصري آخر عن بيت في القدس يعود إلى منزل عائلة برامكي الواقع في حي الترجمان على خط التماس بين شطري المدينة الشرقي والغربي عند بوابة مندلبوم، قبل احتلال ما تبقى من القدس أو ما يعرف الآن بشارع رقم 1. أجبر أنضوني برامكي الذي كان مهندساً ومصمم منزله على الرحيل منه عام 1948 بعد إطلاق النار من العصابات الصهيونية على المنزل ولم يسمح لأهل البيت إلّا بأخذ حقيبة واحدة. في بداية السبعينيات، حوّل الإسرائيليون منزل برامكي إلى متحف أطلقوا عليه "متحف خط التماس".
وفي "أتخيلك بلا منزلك"، حاول حرب التقاط صورة للحميمية المنتهكة في بيوت غزة بعد تدميرها، وفي عمل مازال قيد التنفيذ يعيد حرب الحياة إلى صورة عثر عليها يظهر فيها تلاميذ فلسطينيون يرتدون قمصاناً كتبت عليها أسماؤهم.
تكشف أعمال حرب أن العمارة التي تبدو جميلة في الصورة إنما هي في حقيقتها بشعة، فتحت نمط الباوهاوس الذي كثيراً ما أثنى عليه مؤرّخو العمارة، يوجد هيكل كامل من ماضي فلسطين؛ بيوت بناها أهلها، وشوارع وأزقة لها ذاكرتها، تخطيطات معمارية وحضرية مطمورة، وعمل حرب يشبه أنفاقاً بصرية تريد استرجاع هذه الذاكرة من تحت الأرض.