جيم الخليلي.. أوراق اعتماد أدبية

13 اغسطس 2019
(الخليلي في محاضرة بمانشستر، 2018، تصوير: أندرو بانج)
+ الخط -

"غروب الشمس" (2019، بانتام برس)، عنوان رواية خيال علمي يقترح فيها المؤلف نهاية محتملة للعالم، وذلك بتلاشي المجال المغناطيسي وانتشار الأشعة الكونية. احتمالات يفرضها واقع ينذر بمخاطر كثيرة، قلّما أثارت الانتباه كما في أوقاتنا الحالية. وإضافة إلى المضمون السردي، فإن الرواية تثير العديد من الأسئلة، مثل إمكانية نقل العلم من خلال الأدب إلى أكبر عدد ممكن من القراء، ودور العلم باعتباره مجالاً قادراً على شرح العالم بعد الأساطير والأديان والنظريات الفلسفية المتعددة.

والمؤلف، جيم الخليلي (مواليد بغداد، 1962) هو عالم فيزيائي بريطاني من أصل عراقي متخصّص في علم الأحياء الكمومي (Quantum biology) وهو مجال يتعامل مع الظواهر الكمومية في البنيات البيولوجية، وقد حاز الخليلي على "جائزة مايكل فاراداي" في وقت سابق، كما أنه عضو في "الجمعية الملكية البريطانية". وقد نشر كتباً علمية ترجمت إلى لغات عديدة، من بينها "فيزياء الشيطان، و"ماكسويل"، و"مفارقات الفيزياء"، و"فيزياء الحياة". أما "غروب الشمس" فهو أول عمل روائي يصدره، ورغم اختلاف جنس الكتابة فإن الخليلي حافظ على الاعتماد على اختصاصه في الفيزياء.

في سياق مقابلة مع الملحق الثقافي لجريدة "كورييري ديللا سيرا" الإيطالية، طُرح على الخليلي سؤال: لماذا اخترت أن تنقل العلم عن طريق السرد الروائي؟ ليجيب قائلاً: "الجميع يقول إن لديهم كتاباً في الدرج. بالنسبة إليّ كان الأمر مختلفاً. منذ أربع سنوات (2015) نشرت كتاب "فيزياء الحياة"، وسألني عندها مدير دار النشر: وماذا الآن؟ ما الموضوع الذي ستكتب عنه؟ فكّرتُ في جميع الموضوعات المحتملة، وقلت له مازحاً: حسناً، يمكنني البدء في كتابة رواية. وخلال لحظات، أخذ المشروع شكله، وأصبحتُ مهووساً بكتابة الرواية. لقد فهمت على الفور أنها ستكون خيالاً علمياً، لأنني عالم وهذا هو اختصاصي، ومن جهة أخرى، كنت أحب قراءة روايات الخيال العلمي منذ مقتبل العمر".

هناك العديد من المساهمات لعلماء مشهورين في الكتابة الأدبية، لعلّ أشهرهم الكيميائي إسحاق عظيموف (1920-1992)، ويحضر أيضاً عالم الفلك كارل ساغان (1934-1996) الذي يعدّ من أبرز المساهمين في تبسيط علوم الفلك والفيزياء الفلكية وغيرها من العلوم الطبيعية.

من المرجّح أن يدخل الخليلي ضمن هذه الدائرة في حال واظب على الكتابة الأدبية، ومن المرجّح أنه سيفعل ذلك، لأن روايته الأولى هذه لديها كلّ أوراق الاعتماد لتدخل إلى العالم الأدبي من أبوابه الواسعة، خصوصاً أنه يمتلك الصنعة السردية وفي نفس الوقت لن نجد في نصّه سوى معلومات علمية دقيقة.

تتميّز كتابة الخليلي بالسلاسة وببنيان ذي مصداقية، فأبطال الرواية يتحرّكون وفقاً لخاصية الإثارة كما لدى جون غريشام ومايكل كرايتون. تبدأ رواية "غروب الشمس" بكارثة كوكبية، وبالتالي نقف حيال مزيج من الإثارة بين تداعيات السياسة والعلم. تدور الأحداث في أماكن عديدة من العالم في مستقبل جدّ قريب (بمعايير روايات الخيال العلمي)، حيث إننا في سنة 2041، في عالم ينظّمه الذكاء الصناعي مسبباً العديد من حالات الطوارئ، وأوّلها التغيّرات المناخية التي تسبّب خسائر فادحة في الأرواح مع تعرّض الأرض إلى الانبعاثات المميتة للشمس.

هكذا تبدأ الرواية مباشرة بحبس الأنفاس. تنتقل الأحداث من مكان إلى آخر لتستقرّ في نيوزيلاندا حيث يظهر الشفق القطبي في الشمال بدلاً من الجنوب، ثم نغادر إلى نيودلهي حيث تتحطم طائرة أثناء الهبوط بسبب عطل في أقمار الاتصالات، وهو عطل ناجم عن تفجّر جزيئات عالية الطاقة من الفضاء وانطلاق إعصار بعنف غير مسبوق في جزر الباهاما.

إنها العلامات الأولية لنهاية العالم: ففي غضون ساعات قليلة، سوف تصل الانبعاثات الكتلية الإكليلية إلى الأرض، وهو انفجار هائل من الرياح الشمسية، وتتكون المادة المقذوفة في معظمها من الإلكترونات والبروتونات، بالإضافة إلى كميات صغيرة من العناصر الأثقل، مثل الهيليوم والأكسجين والحديد. عندما تصل هذه السحابة إلى الأرض، يمكن أن تعطّل غلافها المغناطيسي وذلك بضغطها في المنطقة التي تضيئها الشمس وتوسيعها إلى المنطقة غير المضاءة.

لتفادي الذعر بين السكان، فإن السلطات المحلية تخفي الحقيقة، بل إن بعضهم بدأ يتحدّث عن انقراض جماعي كما حدث مع الديناصورات قبل ملايين السنين. سوف تنتقل هذه المسألة المستعصية أولاً إلى فريق مؤلف من أربعة علماء - رجلين وامرأتين - سيحاولون بالاعتماد على الشجاعة والمعرفة وجرعات الابتكار إنقاذ ما يمكن إنقاذه من خلال الانهماك في سباق مضنٍ مع الزمن.

وإذا كان الخليلي قد وصف في كتبه السابقة العالم الغريب للكوانتوم ومفارقات الفيزياء وأشياء أخرى كثيرة، وحين قرّر أن يجرب السرد بدا وقد انتقل إلى مستوى آخر من هذا الوصف والنتيجة هذه الرواية التي تظهر أسماء شخصيات حقيقية من عالم الفيزياء مثل فابيولا جانوتّي (روما 1960) التي تولت منصب المديرة العامة لمصادم سيرن في جنيف عام 2016، وهي التي أعلنت اكتشاف بوزون هيغز؛ أحد أبرز نجاحات الفيزياء في القرن الماضي.

تظهر جانوتّي كأيقونة مزدوجة، إنها من الواقع كما أنها جزء من عالم تخييلي اصطنعه الخليلي، وفي الرواية تظهر المديرة الحالية لمصادم سيرن في شكلين: هي ذاتها كما ستبدو عليه بعد عشرين عاماً، باعتبارها "امرأة مسنة وعالمة قديرة"، كما تظهر كصوت مجسّد لذكاء اصطناعي متقدم للغاية، يسمى "العقل"، الذي يدير ويتحكم بالبنية العملاقة لمصادم سيرن الجديد، ويظهر كصورة تجسيدية ثلاثية الأبعاد، أفاتار هولوغرافي، وأفاتار هي كلمة سنسكريتية تعني تجسّد الإله، ويجيب لكل من يسأله "بإنكليزية مستتبّة ممزوجة باللكنة الإيطالية". رؤية لا تخلو من السوداوية والطرافة، إلا أن الرسالة التي يريد الخليلي إيصالها للقارئ تبدو في النهاية متفائلة، تعيد الثقة إلى نفسه، وإلى مكانة العلم كمنقذ منتظر.

لقد لفت الخليلي انتباه ملايين القراء من خلال وصفه للعالم الغريب إلى نظرية الكمّ وتحليلاته لمفارقات الفيزياء وسرده للتقليد العلمي العربي العظيم، مع الفرضية الأكثر خطورة والمثيرة للدهشة من الأواصر التي يمكن أن تربط بشكل غير متوقع فيزياء الكم والبيولوجيا بعضها ببعض. وقد أصبح من الوجوه المعروفة في إيطاليا، ويؤمّ اليوم محاضراته ولقاءاته المئات من الناس الذين يعبّرون عن دهشتهم لفطنته الطبيعية وبساطته العفوية وقدرته على شرح نظريات في غاية الصعوبة. إنه حكواتي كبير، فلا غرابة في أنه قد قرّر الآن سلوك طريق السرد.

إنه هذه المرة قد اقترح رواية بالمعنى الأدبي للكلمة، جذابة بحدّ ذاتها، تغصّ بالمكائد وبالعلم والخيال. ولعلّه بدأ يتخلّى عن دور الفيزيائي وارتأى أن يتلبّس دور الراوي. وقد كلّفته كتابة هذه الرواية، كما يعترف، جهداً أكبر من العمل النظري الذي يخضع إلى مراجعة نظرائه، أي مراجعة "بين الأنداد" التي لا بد منها من أجل نشرها في مجلة علمية مرموقة ومعترف بها عالمياً.

والنتيجة هي رواية خيال علمي محكمة البناء بطريقة رائعة وخالية من الأخطاء العلمية، تنقلنا إلى عقد الأربعينيات المقبل، الذي تكون فيه البشرية قد تغلبت، ولكن بخسائر فادحة، على أزمة المناخ، وحيث يسود الذكاء الاصطناعي ويتقلص تأثير الحقل المغناطيسي للأرض. هذه هي الخلفية التي يعتمد عليها الخليلي، ليضعنا، مثل زملائه الكثيرين في أدب الخيال العلمي، أمام تحديات باتت تشكل قواماً جديداً من حياتنا المعاصرة.


* كاتب سوري مقيم في إيطاليا

المساهمون