جيل إماراتي متصهين
منذ الإعلان عن اتفاق السلام بين الإمارات وإسرائيل، والساسة والمسؤولون الإماراتيون في حالة من النشوة والغرام بالكيان الصهيوني، فقد حلّ كثيرون منهم ضيوفاً على الإعلام الإسرائيلي، وهم يتحدّثون بفخر عن الخطوة المشينة التي اتخذتها قيادتهم بإعلان تحالفها مع الكيان الصهيوني. وفي جميع حواراتهم، يبدو هؤلاء كأنهم يحاولون التقرّب من الشارع الإسرائيلي، واسترضاء قيادتهم من أجل الإسراع في بناء التحالف بين البلدين، بطريقة فاجأت الإسرائيليين أنفسهم. فقد كتب السفير الإماراتي في واشنطن ومهندس التحالف بين بلاده وتل أبيب، يوسف العتيبة، مقالين في صحيفة يديعوت أحرونوت الإسرائيلية، الأول في 12 يونيو/ حزيران الماضي بعنوان "إما الضمّ أو التطبيع"، والثاني يوم 20 أغسطس/ آب الحالي، بعنوان "سلام عليكم" أو "شالوم عليكم" باللغة العبرية، حاول فيهما العتيبة تبرير اتفاق السلام الذي تم الإعلان عنه أخيرا وتسويقه بلغةٍ لا تخلو من الاستجداء والتزلّف للإسرائيليين، حيث عدّد الفوائد التي سوف "يجنيها الإسرائيليون من الاتفاق في مجال السياحة وفتح الإمارات أمامهم في كل المجالات، السياحة والعمل والتعليم، وحتى الصلاة في مركز التسامح الديني الذي سيتم تشييده في الإمارات". ولن نستغرب إذا أصبح العتيبة كاتباً منتظماً في إحدى الصحف الإسرائيلية مستقبلاً!
ومنذ الإعلان عن الاتفاق، أجرت الصحف الإسرائيلية عدة حوارات مع مسؤولين إماراتيين، مثل وزير الدولة للشؤون الخارجية، أنور قرقاش، وكذلك مع مساعد وزير الخارجية والتعاون الدولي للشؤون الثقافية، عمر سيف غباش، ومع مدير الاتصالات الاستراتيجية في وزارة الخارجية الإماراتية، هند مانع العتيبة. ولم يتبق سوى أن نشاهد ولي عهد أبوظبي، محمد بن زايد، في حوار مع القناة الإسرائيلية الثانية أو غيرها من القنوات الإسرائيلية.
لن نستغرب إذا أصبح السفير الإماراتي في واشنطن، يوسف العتيبة، كاتباً منتظماً في إحدى الصحف الإسرائيلية مستقبلاً!
ويبدو الأمر كما لو أن هناك تنافساً محموماً بين المسؤولين الإماراتيين في التقرّب من إسرائيل، وكأنهم كانوا محرومين من "الغيث الإسرائيلي" الذي نزل عليهم فجأة، فأخذوا يتسابقون ويهرولون كي ينهلون من "نبعه" تيّمناً وتبّركاً به، إلى درجةٍ تجعلك تقف مشدوهاً أمام الأمر، وتتساءل في اندهاش: كيف ومتى نبت في فضائنا العربي والخليجي كل هذا العفن والخبَث السياسي؟ ومن الذي زرع كل هذا التلوّث الفكري والتشوّه النفسي في عقول هؤلاء؟ ومن أي بئرٍ فاسدةٍ شربوا حب إسرائيل، مقابل التضحية بفلسطين أرضاً وشعباً؟ قطعاً ليس من أبيهم ومؤسس دولتهم الشيخ زايد، رحمه الله، الذي كانت له مواقف مشرّفة من فلسطين، وظل حتى آخر حياته وفيّاً لقضيتها وللعروبة.
في الوقت نفسه، حلّ رئيس الوزراء الإسرائيلي، بنيامين نتنياهو، ضيفاً على قناة سكاي نيوز عربية، التي تُموّل وتُبث من أبوظبي. في حين بدأت قنوات تلفزيونية إسرائيلية تبّث تقاريرها من دبي وأبوظبي، وقد أصابت مراسليهم الدهشة وكأنهم لا يصدّقون ما يفعلون. كذلك تم استقبال رئيس الموساد الإسرائيلي، يوسي كوهين، في أبوظبي، قبل أن يغادرها إلى البحرين من أجل عقد محادثات مع قادتها بشأن إمكانية إعلان التحالف معها.
كأن هناك تنافساً محموماً بين المسؤولين الإماراتيين في التقرّب من إسرائيل، وكأنهم كانوا محرومين من "الغيث الإسرائيلي"
قد يبدو الأمر مفاجئاً، وفاجعاً، للمواطن العربي، وهو يرى هذا الانحدار والانزلاق الإماراتي باتجاه إسرائيل، ولكنه قطعاً لا يجب أن يُفاجأ إذا عرف أن الأمر يتم إعداده و"طبخه" منذ عقدين على الأقل، فلم يكن لهؤلاء المسؤولين الإماراتيين أن يخرجوا للحديث عن علاقة بلدهم بتل أبيب بهذه الكثافة والجرأة، ما لم تكن هناك علاقات بالفعل تجري على قدم وساق. ولا يُعقل أن يكون ما نشاهده من استمتاع لديهم، وهم يتحدّثون عن هذه العلاقة، وليد اليوم. ولعل هذا يثير تساؤلا بشأن نجاح إسرائيل في اختراق النخب العربية الحاكمة نفسياً وسياسياً واستراتيجياً. وفي حين تذهب رواياتٌ إلى أن الأمر ليس غراماً بإسرائيل، بقدر ما هو التخوف من ملفات وقضايا تحتفظ بها تل أبيب تمسّ بعض هؤلاء المسؤولين وقياداتهم، والخوف من استخدامها ضدّهم وابتزازهم بها، إلا أن الأمر يتعلق بتحولات أعمق في عملية التنشئة والتربية التي جرت في الإمارات خلال العقدين الأخيرين، والتي قلبت الموازين لدى ساساتها وحكّامها ونخبها. وهي عمليةٌ لا يبدو أنها تمت بعيداً عن أعين الإسرائيليين وحلفائهم الذين اخترقوا النخبة الإماراتية، وسيطروا على عقولهم، وبدّلوا مواقف بلادهم تجاه العرب، وقضاياهم خصوصا قضية فلسطين. لذا لا غرابة أن يتشارك هؤلاء جميعاً (نخب الإمارات وإسرائيل وقياداتهما) في المواقف من الربيع العربي، والديمقراطية، والإسلام السياسي،.. إلخ. وأن يدعموا الدمار والخراب في اليمن وليبيا وفلسطين ومصر والسودان من أجل تحقيق مصالحهم.
لم يكن للمسؤولين الإماراتيين أن يخرجوا للحديث عن علاقة بلدهم بتل أبيب بهذه الكثافة والجرأة، ما لم تكن هناك علاقات جارية بالفعل
لذا، ليست خطورة التحالف بين أبوظبي وتل أبيب في أبعاده الأمنية والاستراتيجية فحسب، ولكن، وهذا هو الأهم، في أن تستخدم الثانية الأولى وتوظفها رأس حربة في مشروعها لتغيير الأدمغة العربية وغسلها، على غرار ما حدث مع قيادات الإمارات ونخبتها السياسية والإعلامية، بحيث يهرول الجميع إلى تل أبيب، طالبين رضاها والتحالف معها، وذلك على غرار ما تفعل هذه النخب حالياً. بكلماتٍ أخرى، سوف تصبح الإمارات بمثابة "بئر السّم" الفكري والعقلي التي تريد إسرائيل أن يشرب منها العرب، خصوصا النخب الشابة، من أجل أن تتم "غسل" أدمغتهم وقلب الثوابت والموازين لديهم بحيث يصبحون أكثر بعداً عن قضاياهم، وفي القلب منها قضية فلسطين، وأكثر دفاعاً عن مصالح تل أبيب.