جيش من الأبناء رغم الأخطاء الطبيّة

29 نوفمبر 2014
لم يكن أبي يعرف كل واحد منافي أي صف(Getty)
+ الخط -
للأسف، عدد الذين عاشوا من كل هؤلاء القوم هو سبعة، ست بنات وأبي. وكان ذلك "الاصطفاء" يحصل لأنّ الطب كان متخلّفاً، في الريف خصوصاً. إذ لم يكن هناك أطباء. فلم يكن من السهل مرض أحد الأولاد، لأنّه سيُنقل إلى "حلب" عند الطبيب الأرمني فريشو في مستشفى الكلمة، وغالباً ما كانوا يسقونه البابونج ويغطونه بالبطانيات حتى يلفظ أنفاسه.

وبناء عليه، كان يعيش الولد قوي البنية ويموت الأولاد الرقيقون الحساسون الذين كان من الممكن لو قدّر لهم العيش أن يكونوا "شعراء" أو فنانين أو شيئاً من هذا القبيل! وهذا بالضبط ما كان يحدث في ميدان العلم. فأبي، رحمه الله، مع أنّه الابن الوحيد لأبويه، كان لديه ستة عشر ولداً من زوجتين، تعلّم منهم خمسة فقط، أنا واحد منهم. ومن كثرة الأولاد، لم يكن أبي يعرف كل واحد منا في أي صف، وكان يسألنا: (بأي صف أنت؟) فنجيبه، فيقول: (مجتهد أم كسلان؟) فيقول له المجتهدون والكسالى معاً، "طبعاً مجتهد، وَلَوْ"! ثم ينسى. وعندما ترك بعضُنا المدرسة بسبب استنفاد فرص الرسوب أصبحت أسئلته أكثر طرافة. أنت ممن تركوا المدرسة أم لا زلت متابعاً؟ ثمّ، في أيّ صف أصبحت؟ ثم، هل ستتابع أم ستترك؟ ويوم حصلت على البكالوريا أهّلني مجموع درجاتي المدرسيّة للدخول إلى كلية الهندسة المعمارية، وقد سجّلت فيها، ودرست سنة ثم تركـت بسبب ظروفي المادية متحولاً إلى كلية الاقتصاد.

ومن ثم حصلت على وظيفة مدرّس بالوكالة لأتمّكن ماديّاً، وفي الوقت عينه، أكملت دراستي الجامعيّة ونجحت بكل السنوات حتى تخرّجت. واكتشفتُ يوم تخرجي، أنّ والدتي لم تعلم بكل هذه التفاصيل. يوم تخرجت، فرحتُ كثيراً، وركبت الباص من حلب متوجهاً إلى معر تمصرين منتظراً لحظة لقائها بشغف، لأزف لها البشرى فتشاركني فرحتي كنساء الحيّ حين يفرحون بأبنائهم. وصلت أخيراً، فوجدتها متأهبّة لزيارة إحدى صديقاتها، فقلت لها وأنا أركض لاهثاً: أمي أمي، هاتي البشارة، تخرّجت من الجامعة. فدهشت وقالت لي: كيف تخرجت من الجامعة؟ على علمي أنك تركت الجامعة من زمان!
دلالات
المساهمون