جوهر القضيّة.. فلسطين

21 اغسطس 2014

فلسطينيون يتظاهرون في رام الله دعماً للمقاومة (18 يوليو/2014/أ.ف.ب)

+ الخط -


لا شيء يوقف فلسطين عن أن تبقى فلسطين. ولا شيء يمكن أن يمنع صغارها من النموّ في حديقة أحلامهم الملونة. لا شيء، حتى لو كان صاروخاً يحمل في رأسه أيّ مادة قاتلة. الصاروخ الذي يخترق الجسد الصغير، وكل الأجساد تبدو صغيرة بالنسبة لصاروخ، قادر على أن يفتّت خلايا هذا الجسد، وعلى أن يُسيل دمه، وعلى أن يُعجِز الطبيب المكلّف بالإنقاذ، حتى يبكي. لكن هذا الصاروخ الجبار لا يبدو قادراً على قتل الحلم في قلب هذا الصغير الذي انتقل توّاً إلى رحمة الله، مشيّعاً بدموع الطبيب العاجز، ولا على مصادرة فكرة الوطن، من رأس هذه المرأة التي حَملت لقب شهيدة، وحُملت ملفوفةً بألوان العلم ومزيد من الدماء. وابتسامةٌ تصرّ عدسات الكاميرا على سرقتها، أو اختلاقها، من بين ملامح الرعب الأخير.

من أين يأتي الفلسطينيون بكل هذا الجبروت الدامي، لكي يستمروا في الصلاة في مساجدهم وكنائسهم، باليقين نفسه، بعد كل أزمة تمرّ بهم، أو يمرون بها؟ أتساءل، وأنا أتابعهم على شاشات الفضائيات، وهم يعودون إلى حياتهم في غزة، في أثناء الهدنة المؤقتة الأخيرة، يبحثون بين الأنقاض عن جثث لشهداء، وعن حيواتٍ مضت لأصداءٍ وأبناء، وعن كتبٍ وصورٍ وذكريات. يزيحون الركام، ويعيدون ترتيب الحجر، ويمسحون الدموع، ويبدأون من جديد. يمشون على درب جلجلتهم بآياتهم القرآنية، وعجائب صبرهم.

فمن أين لهم كل هذا الصبر الذي صار يقتات عليهم، بدلاً من أن يقتاتوا عليه، ويتخذونه زاداً تجاه الغد والآخرين؟

من أين لهم قدرة المشي على الجمر، من دون أن يحترقوا، كما يُراد لهم؟

من أين لهم هذه الطاقة العجيبة على البناء بعد كل هدم، وعلى الحياة بعد كل موات، وعلى الزرع بعد كل تفجير، وعلى الصلاة، بعد كل ما يؤدي بالبشر إلى الكفر؟

من أين للفلسطينيين كل هذه القدرة المتصاعدة على الحلم، في عتمة الليالي العربية كلها تقريباً؟

كيف يستمرون في السير على طريق الانتظار سنين طويلة، وهم يغنّون للأرض وللشهداء، ويلمّعون مفاتيح بيوتهم القديمة، انتظاراً للعودة ذات نصرٍ قادم؟

كيف لعيونهم أن ترى ما لا يراه الآخرون، حيث تلوح لهم قبّة الأقصى الشريف، عند كل نظرة للبعيد في ظروف الانكسار والوجع، كسدرة منتهى، فيمضون في الصلاة على نيّة العودة والبقاء، على الرغم من أنهار الدماء التي تسيل هناك، والمعابر التي يغلقها الأشقاء، قبل الأعداء، في وجوههم، والخنوع الدولي المحيط بهم لمبدأ الهيمنة والجبروت وحدهما؟

كلما كتب الشاعر لفلسطين قصيدة، أو غنّى المغني أغنية، أو كتب الكاتب مقالة، قال المحبطون إنما هو كلام في كلام، لا بدّ أنه سيذهب أدراج الرياح، كما ذهبت فلسطين نفسها. قالوا ذلك، وكرروه طويلاً، حتى كادت أن تختفي فلسطين، اسماً ومعنى من وجدان الأدب العربي في السنوات الأخيرة، خشية من الاتهامات المعلّبة التي يدحرجها هؤلاء المحبطون بين القوافي والنغمات. صارت عيباً، وربما عاراً، على كل كتابة، بعدما نجح بعضهم في تعزيز شكلها مرادفاً للتقليدية والملل، في التعبير عن الوجدان الجمعي للفلسطينيين والعرب.

وينسى هؤلاء أن فلسطين لم تذهب أبداً حتى في ظل احتلال الاحتلال الصهيوني الذي راهن على ابتلاعها، أرضاً وتاريخاً وشعباً ووجوداً حضارياً وبشرياً. لكنه، بعد سبعة عقود، لم يحتل سوى الجغرافيا، وبقي في وجوده طارئاً، على الرغم من كل محاولاته.

الشعر والنثر والأغاني ليست مجرد كلام عابر يليق بالعابرين، لكنها وسائل تعبيرية عن الحلم، ووقود إضافي له، لكي يبقى في الرؤوس والقلوب. والقضية الفلسطينية، التي مرّت بمراحل وأدوار، على مدى تاريخها، صعوداً وهبوطاً، لم تكن مجرد نضالات عابرة، ولا أرقام متراكمة للشهداء والجرحى واللاجئين. القضية الفلسطينية أبعد من هذا بكثير، ولكنها أبسط أيضاً. هي قضية وطن حقيقي اسمه فلسطين، يحتله عدو حقيقي اسمه إسرائيل، ولا بدّ للاحتلال من أن ينجلي، ولا بد لفلسطين من أن تعود حرّة مستقلة، ووطناً لكل فلسطيني. هذا جوهر القضية التي يحاول بعضهم أن يفتّتها، لتختفي بين اتفاقات ومعاهدات ووفود ووعود وتواقيع وأوراق وخرائط واجتماعات و... و... ولا شيء حقيقياً على الأرض سوى المزيد من الاحتلال. وبعد هذا، يلومون المقاوم على الاستمرار في المقاومة، بحجة تخريب خطط السلام بالعنف والحرب وتدمير الفرص، ويلومون الشاعر على التغنّي بفلسطين، بحجة تخريب جماليات الشعر بالتكرار. حسناً، أيها الحريصون على السلام والجمال، سنخبركم بالحقيقة: فلسطين هي السلام وهي الجمال. هي الوطن وهي القصيدة. واضح؟

CC19B886-294F-4B85-8006-BA02338302F0
سعدية مفرح

شاعرة وكاتبة وصحفية كويتية، من مجموعاتها الشعرية "ليل مشغول بالفتنة" و"مجرد امرأة مستلقية"، ولها مؤلفات نقدية وكتب للأطفال. فازت بعدة جوائز، وشاركت في مهرجانات ومؤتمرات عدة.