حيث فشلت رئيسة الوزراء البريطانية السابقة تيريزا ماي، يقف خليفتها بوريس جونسون اليوم السبت، محاولاً إقناع الأغلبية البرلمانية في مجلس العموم (البرلمان) بالموافقة على صفقته التي عقدها مع الاتحاد الأوروبي لإخراج بلاده من التكتل (بريكست)، في مهمة لن تكون سهلة بتاتاً أمام رئيس الوزراء البريطاني المصرّ على إتمام الخروج في 31 أكتوبر/تشرين الأول الحالي. وبعدما أعلنت دول الاتحاد الأوروبي قبولها باتفاق "بريكست" المعدّل الذي أبرم في اللحظات الأخيرة من صباح الخميس، قبل ساعات معدودة من موعد القمة الأوروبية، يحمل جونسون هذه الصفقة إلى مجلس العموم اليوم، ويتعيّن عليه الحصول على دعم الأغلبية البرلمانية التي يفتقدها راهناً، إضافة إلى أن حليفه الحزب الاتحادي الديمقراطي الإيرلندي الشمالي أعلن رفضه للاتفاق.
وللمرة الأولى منذ حرب فوكلاند أو "المالفيناس" (بين بريطانيا والأرجنتين) في عام 1982، يعقد مجلس العموم جلسة استثنائية. لكن جونسون الذي وصل إلى السلطة في نهاية يوليو/تموز الماضي، فَقَد غالبيته في مجلس العموم، ولم يعد لديه سوى 288 نائباً، لكنه يحتاج إلى 320 صوتاً لتمرير الاتفاق. وإذا فشل في الحصول على تصويت إيجابي في البرلمان، سيضطر إلى مطالبة بروكسل بإرجاء جديد لـ"بريكست" لمدة ثلاثة أشهر بموجب قانون صوّت عليه النواب في مطلع سبتمبر/أيلول الماضي في مجلس العموم، وبينهم 21 منشقاً من حزبه المحافظين.
إلا أن جونسون يبدو واثقاً من دعم البرلمان للاتفاق الجديد، إذ قال: "أريد أن أؤكد أنها صفقة عظيمة لبلدنا، لبريطانيا. وأعتقد أيضاً أنها صفقة جيدة جداً لأصدقائنا في الاتحاد الأوروبي"، مشيراً إلى أن الخيار البديل للاتفاق سيكون في خروج فوضوي من الاتحاد. أما احتمال تمديد موعد "بريكست"، فيبدو أنه خيار مطروح، إما لدواعٍ تقنية أو في حال فشل الاتفاق في تجاوز امتحان البرلمان البريطاني. كذلك يلقى رئيس الوزراء البريطاني دعماً أوروبياً، وهو ما بدا في تحذير رئيس المفوضية الأوروبية جان كلود يونكر، أمس الجمعة، من "وضع معقّد للغاية" في حال رفض مجلس العموم التصديق على اتفاق "بريكست" الجديد.
وبينما كان نجاح جونسون الرئيسي في الحصول على دعم متشددي "بريكست" في حزبه المحافظين، إلا أن أعدادهم لا تكفي لضمان تمرير الاتفاق، وسيحتاج لأصوات 21 نائباً كان قد طردهم من الحزب لتصويتهم ضد الحكومة في مرحلة سابقة، إضافة إلى أصوات عدد من نواب حزب العمال من مؤيدي "بريكست". ويعتقد جونسون أن الضمانات بالمنافسة النزيهة ستكون حافزاً يدفع نواب "العمال" إلى التصويت لخطته، إذ تشمل هذه الضمانات حقوق العمال. إلا أن المستشارة الألمانية أنجيلا ميركل أشارت إلى أن الروابط الاقتصادية الجديدة مع بريطانيا ستكون أكثر اختلافاً عن تلك المعمول بها في الاتحاد الأوروبي. وقالت، مقارنةً صفقة جونسون بصفقة ماي: "حينها لم يكن واضحاً شكل العلاقة المستقبلية وهل ستكون بريطانيا عضواً في السوق المشتركة أو لا. والآن يبدو جلياً أن بريطانيا ستصبح طرفاً ثالثاً، وسنبدأ فوراً التفاوض على صفقة تجارة حرة معها".
لكن زعيم حزب "العمال" جيريمي كوربن، الذي يشغل 244 مقعداً نيابياً، دعا النواب إلى رفض الاتفاق. واعتبر أن "أفضل طريقة لحل بريكست، إعطاء الشعب الكلمة الفصل" في استفتاء ثانٍ. وعارض الاتفاق الاستقلاليون الاسكتلنديون (35 نائباً) والليبراليون الديمقراطيون (19 نائباً)، وهم يؤيدون البقاء في الاتحاد الأوروبي.
وكان الحزب الوحدوي الديمقراطي الإيرلندي الشمالي، الذي يؤمّن الأكثرية للمحافظين بزعامة جونسون، أعلن رفضه للاتفاق فور نشره. وقال الحزب الذي يشغل عشرة مقاعد في البرلمان، إنه "غير قادر على دعم هذه المقترحات" بخصوص مسائل التسوية الجمركية وموافقة حكومة إيرلندا الشمالية على مسودة "بريكست".
الصفقة الجديدة التي جرى التوصل إليها بعد أسابيع من مفاوضات مكثّفة، تركزت على تعديل ترتيبات لإبقاء الحدود مفتوحة بين إيرلندا الشمالية وجمهورية إيرلندا العضو في الاتحاد الأوروبي، لا تختلف كثيراً عن سابقتها، ولكنها تشمل المزيد من التفاصيل حول طريقة التعامل مع الحدود الإيرلندية وبضعة تعديلات على الإعلان السياسي المرافق للنص القانوني للاتفاق. ويحافظ الاتفاق المعدل على الالتزام البريطاني-الأوروبي باتفاق "الجمعة العظيمة" للسلام في الجزيرة الإيرلندية (1998). إلا أنه يتخلص من خطة المساندة الخاصة بالحدود في الجزيرة، وهو ما كان مطلب جونسون الرئيسي.
واتفقت جميع الأطراف على أنها لا تريد بنية تحتية على الحدود، لتجنّب تفاقم التوترات بشأن سيطرة بريطانيا على إيرلندا الشمالية. والاتفاق الجديد يبقي بريطانيا في منطقة جمركية واحدة ويسمح لها بإبرام صفقات تجارة دولية، لكن يتطلب من لندن فرض رسوم أوروبية على بعض السلع التي تعبر إيرلندا الشمالية. وستطبق بلفاست قواعد الاتحاد الأوروبي حول الزراعة والمواد الغذائية والسلع الصناعية.
ويشمل الحل البديل لخطة المساندة التزام إيرلندا الشمالية قواعد الاتحاد الأوروبي التجارية بين نهاية الفترة الانتقالية نهاية عام 2020 ولمدة أربع سنوات على الأقل. ويمتلك مجلس ستورمونت (برلمان إيرلندا الشمالية) القدرة على التمديد أو إنهاء هذا الالتزام. وبالتالي تخرج بريطانيا بالكامل من الاتحاد الأوروبي في موعد "بريكست" المقرر، ولكن تبقى إيرلندا الشمالية عملياً جزءاً من المنظومة الأوروبية طالما أقرت بذلك أغلبية برلمان بلفاست.
وبالفعل، فإن مجلس ستورمونت يؤدي دوراً محورياً في التسوية الجديدة، التي تؤكد ضرورة قبول سكان إيرلندا الشمالية بالاتفاق بين لندن وبروكسل. وينصّ الاتفاق على أنه بعد مرور أربع سنوات على نهاية الفترة الانتقالية، التي لا تزال مقررة عند نهاية عام 2020 إلا إذا اختار الطرفان تمديدها، يصوت مجلس ستورمونت على الترتيبات المتفق عليها. وإذا وافق المجلس على تمديد الإجراءات بأغلبية بسيطة، أي أكثر من 50 في المائة، فسيكون ذلك لمدة أربع سنوات. أما إذا كانت أغلبية الأصوات في المعسكرين المؤيد للندن والمؤيد لدبلن داعمة للتمديد، فسيكون ذلك لثماني سنوات. ويعرّف البروتوكول هذه الأغلبية بأنها 60 في المائة من الأصوات الاجمالية، وتشمل 40 في المائة من أصوات معسكري القوميين والاتحاديين المتنافسين في بلفاست.
أما إذا فشل التصويت المقرر قبل شهرين من نهاية مهلة 4 سنوات، الذي سيكون في أكتوبر 2024، فسيكون أمام بريطانيا والاتحاد الأوروبي مهلة عامين للتوصل إلى ترتيبات بديلة: أي بداية عام 2027. أما في حال عدم انعقاد المجلس، كما هي حاله منذ بداية عام 2017، فسيحصل التمديد تلقائياً. ويشمل الاتفاق أيضاً التزاماً بريطانياً أوروبياً بعدم وضع نقاط التفتيش الجمركية أو أي من البنى التحتية الحدودية بين الجمهورية الإيرلندية وإيرلندا الشمالية. وأعلن الطرفان نيّتهما أيضاً "تجنّب التفتيش في الموانئ والمطارات في إيرلندا الشمالية". إلا أن تجنّب وجود الحدود الجمركية بين بلفاست ودبلن يعني وجودها في البحر الإيرلندي، وهو ما أشار إليه كبير مفاوضي الاتحاد الأوروبي ميشال بارنييه في مؤتمره الصحافي بعد إعلان الاتفاق بالقول: "ستجري الإجراءات المقررة كافة في ما يتعلق بالسلع على مداخل إيرلندا الشمالية، وليس عبر الجزيرة الإيرلندية". ويشير ذلك إلى احتمال وجود نظام إعلان جمركي على الإنترنت على المدى البعيد.
وبما أن إيرلندا الشمالية ستكون قانوناً جزءاً من النظام الجمركي البريطاني، وعملياً جزءاً من الاتحاد الجمركي الأوروبي، لن تكون هناك نقاط تفتيش على الحدود، ولكن التعرفة الجمركية ستكون مطلوبة على عدد من البضائع التجارية. وينص الاتفاق على أن "الملكية الخاصة" التي في طور الانتقال بين بريطانيا وإيرلندا الشمالية مُعفاة من الرسوم الجمركية. ويحمي ذلك نواحي تجارية مثل التسوق عبر الإنترنت وكافة المواد ذات الاستخدام الشخصي.
أما البضائع ذات الاستخدام التجاري المستوردة من بريطانيا، فيجب عليها أن توضح وجهتها، إذ إنها ستضطر إلى دفع الرسوم الجمركية ما لم تبقَ في إيرلندا الشمالية. كذلك ستكون البضائع التجارية الآتية من بريطانيا إلى إيرلندا الشمالية من دول ثالثة ملزمة بدفع تعرفة جمركية في حال عبورها الحدود أيضاً. وهو ما ستقوم به بريطانيا نيابة عن الاتحاد الأوروبي. أما في حال تمكُّن التاجر من إثبات بقاء هذه السلع في إيرلندا الشمالية، فسيتمكن من استعادة الأموال المدفوعة لمصلحة الجمارك.
كما كانت ضريبة القيمة المضافة إحدى النقاط العالقة في المفاوضات، التي قدّمت فيها بريطانيا التنازلات للاتحاد الأوروبي. وسيطبّق القانون الأوروبي الخاص بالضريبة في إيرلندا الشمالية انطلاقاً من المخاوف الأوروبية من أن اختلاف الضريبة داخل الإقليم البريطاني سيؤدي إلى خلل تجاري ويقوّض من السوق الأوروبية المشتركة. أما الفقرة الخاصة بالمنافسة النزيهة فتلتزم بريطانيا فيها البقاء في معاهدات الاتحاد الأوروبي الخاصة بالمناخ والبيئة وحقوق العمال في أي اتفاق تجاري مستقبلي بين الطرفين.
ويبدو أن اتفاق جونسون قد قوّض الجهود الرامية إلى التصويت للاستفتاء الثاني في البرلمان اليوم السبت، إذ قد يرغب المحافظون السابقون (وعددهم 21 نائباً) في منح رئيس الوزراء الفرصة لتمرير اتفاقه. وتسعى المعارضة البرلمانية إلى فرض الاستفتاء الثاني على أي اتفاق "بريكست"، خصوصاً بعد تبنّي حزب العمال رسمياً لهذا الموقف.