جوفري رَش: "كان لديّ عكّاز يمكنني استعماله للقتال"

10 يوليو 2020
جوفري رَش: الأمر بمثابة حلم تحقّق (مارك متْكالف/Getty)
+ الخط -

 

رغم أنّ جوفري رَش (1951) من بين 24 شخصاً كُلّلوا بجوائز "تاج التّمثيل الثلاثي" ("أوسكار" و"إيمي" التلفزيونية و"توني" لأفضل دور مسرحيّ)، فإنّ صيته لم يذع إلا متأخّراً، بفضل شخصية عازف البيانو، ديفيد هلفغات، التي أدّاها في "شاين" (1996) لسكوت هيكس، وكان يبلغ حينها 45 عاماً. وفاءً لتقليد مسرحي أسترالي عريق، بدأ رَش مساره المسرحي الزّاخر منذ سنّ العشرين، فتلقّى بفضل ذلك تكويناً صلباً على الخشبة مع "فرقة كوينزلاند"، قاده إلى اقتسام الشقة نفسها مع مل غيبسون، في أثناء تأديتهما أدوار البطولة في "في انتظار غودو"، نهاية السبعينيات الماضية.

إذا لقِيَ تقمّصه الماركيز دو ساد، في "الرّيشات" (2000) لتشارلي كوفمان، إشادة نقدية كبيرة، فإنّ دور الكابتن باربوسا، في ساغا "قراصنة الكراييب"، فتح له أبواب الشهرة عند الجمهور العريض، قبل أن تتفتّق موهبته (في تلبّس الشخصيات الحقيقية خصوصاً) عن مزيد من الأدوار الخالدة، أهمّها شخصية الكوميدي الإنكليزي الفذّ، في البيوغرافيا التلفزية "حياة وموت بيتر سيلرز" (2004)، ودور ليونيل لوغ، اختصاصي علاج النّطق في "خطاب الملك" (2010) لتوم هوبر.

التقت "العربي الجديد" جوفري رَش في الدورة الـ18 (29 نوفمبر/ تشرين الثاني ـ 7 ديسمبر/ كانون الأول 2019) لـ"المهرجان الدولي للفيلم بمرّاكش"، التي احتفلت بالسينما الأسترالية، لكونه أحد أبرز سفراء هذه السينما العريقة في العالم، وكذلك بصفته الرئيس المؤسّس (2011 ـ 2017) لـ"الأكاديمية الأسترالية لفنون السينما والتلفزيون".

 

دور الكابتن باربوسا، الذي اضطلعت به في سلسلة أفلام "قراصنة الكاريبي"، مهمّ للغاية بالنسبة إليّ، لأنّه دور تكوين بامتياز. فجانب الشخصية الشريرة الطّاغي فيه لا يلغي لمسة الكوميديا الرشيقة الأساسية في نمط السلسلة. كيف أعددت له؟

كان للفيلم الأول سيناريو مذهل بجدّته ونضارته، مقارنة بما كان يكتب في هوليوود آنذاك. كنّا، كما تعلم، بمرتبة متأخّرة على رادار استطلاع ما سيخرج في الصيف الموالي، حيث استأثرت بالترقّب أفلام أخرى، أعتقد أنّ أهّمها "هالك" و"ملائكة تشارلي 2 ". كان الجميع يقولون: إنّها مجرّد رحلة متنزّه ترفيهي. كاتبا السيناريو، تيري روسيو وتيد إليوت، هما من كتبا "قناع زورو"، الذي وجدته طريفاً ومسلّياً للغاية. يصعب جداً كتابة ذلك النوع من الأفلام بأفكار مجدّدة، من دون السقوط في الكليشيه. اشتركت في إنتاج مسرحية "انتظار غودو" في أستراليا، وجاء عرض التمثيل في الفيلم قبل 6 أشهر من بدء عروض المسرحية. راسلت وكيل أعمالي: "كتب لي غور فيربينسكي رسالة رائعة، سخيّة ومحمّسة، للمشاركة في الفيلم. لكن، مع الأسف، سأضطرّ إلى رفضها، لأنّي ملتزم بالمسرحية. أنا مخلص لالتزاماتي كما تعلم". أجابني: "لا. لا. هذا فيلم من إنتاج جيري بروكهايمر، وسيكون ذا جودة عالية. إنها فرصة رائعة بالنسبة إليك لتأدية شخصية استثنائية وجريئة في فيلمٍ يُحتمل أنْ يكون ناجحاً جداً، تجارياً"، خصوصاً أنّ الشخصية تدخل على الخطّ في توقيت جيد للغاية. حوالى 20 دقيقة بعد البداية. إنّه دائماً الوقت المناسب في مسرحية أو فيلم لدخول شخصية ما غمار الحكي. أتذكّر أنّ أحدهم وصف الكابتن باربوسا بأنه "بُصق من فم الجحيم". قلت لنفسي: "حسناً، يجب أن أعثر على هذا الوصف بأيّ ثمن". باربوسا بذيء، ونرجسي، وطريف للغاية. أظنّ أنّه يحبّ قرده كثيراً (يضحك). أعتقد أنّه بحلول الوقت الذي وصلنا فيه إلى 3 أو 4 أفلام أخرى من السلسلة، قاموا ـ شيئاً فشيئاً ـ بتغيير نغمة الشخصية، وأصبح باربوسا سياسياً نوعاً ما. أحببت ذلك. عمل لدى الملك، ثم طعن في السنّ وفَقَد ساقه، لكن (بصوت الكابتن باربوسا): "كان لديّ عكّاز يمكنني استعماله للقتال". كان فريق العمل على هذه الأفلام بمثابة عائلة كبيرة. صوّرنا آخر فيلم من السلسلة في أستراليا، بالقرب من ساحل "غولد كوست"، حيث كنت أمضي العطلة الصيفية في فترة طفولتي. إنّه شيء رائع.

لديك تقليد كبير مع اختصاصيي الخطاب واللكنات، لأنّ هناك دوراً آخر مهماً لك، في "خطاب الملك"، يؤكّد هذا الجانب.

فعلاً. ما أعجبني في هذا الفيلم أنّه يتعلّق بشخصية أسترالي في فيلم دولي، وهذا شيء لا يتكرّر كثيراً، في تلك الفترة على الأقلّ. ثمّة "الرّعد الاستوائي" (يضحك) حيث يهجو روبرت داوني جونيور بشكل طريف لهجة الممثّلين الأستراليين. أحببت دور اختصاصيّ النطق ليونيل لوغ وأجواء هذا العالم الإمبراطوري والمتصنّع في عظمته نوعاً ما. هذه أيضاً قصّة صداقة بين شخصين لا يكاد يجمعهما أي شيء. من الجميل أنّي ما زلت على اتصال مع كولين (كولين فيرث مؤدّي دور الملك جورج السادس، المحرّر) حتّى اليوم. غالباً ما ينجرف كلّ إلى انشغالاته بعد خروج الأفلام، لكنّي ما زلت أتبادل الرسائل معه على إيقاع يكاد يحاكي أسلوب تواصلنا في الفيلم.

هناك تحدٍّ آخر مهمّ في مسارك: تقمّص بيتر سيلرز في "حياة بيتر سيلرز". كيف تمكّنت من التقاط الشرارة للعب دور هذا الكوميدي العظيم؟

رفضت العرض في البداية، لأنّي كنت متخوفاً من أن يكون أدائي ناشزاً. كما تعلم، أنا أسترالي، وشكل جسمي مختلف عن جسمه. لكنْ، في النهاية، بعد أن أجرينا اختبارات الماكياج واللّباس، قرّرت خوض المغامرة. المثير، أنّنا كنا بصدد تصوير الجزء الأول من "قراصنة الكاريبي"، فيما كنت أعمل بالتّوازي على لكنة سيلرز مع مدرّبة اللّهجات نفسها التي أشتغل معها منذ "شكسبير عاشقاً". إنّها جيدة جداً في اللّهجات واللّكنات بشكل عام. بينما نحن في الكاريبي، كنّا نستمع في أثناء فترة فراغي إلى "ذا غون شو"، ونشاهد المفتش كلوزو. ثمّة مادّة كثيرة كما تعلم. بعد ذلك، أُستَدعى للتصوير، فأغدو قرصاناً مرّة أخرى. كان عليّ قضاء وقت طويل مع سيلرز. ما سهّل من مهمّتي كونه صوّر حياته بنفسه كثيراً، لأنّه كان مهووساً بالكاميرات. أعجبت بسيناريو الفيلم والزاوية التي تبنّاها. السيرة الذاتية مجال خطر وزلق للغاية. صدف أني لعبت أدوار أشخاص واقعيين كثيرين في حياتي.

من تجاربك الأخرى، ولكن الأوروبية هذه المرّة، اشتغالك مع جوسيبي تورناتوري في "أفضل عرض". أتخيّل أنها كانت تجربة خاصّة.

استمتعت بها فعلاً. جاء جوسيبي إلى أستراليا في فترة كنت أؤدّي فيها دور السيدة براكنيل في "أهمية أنْ تكون جاداً" (أوسكار وايلد) على المسرح. شاهد العرض. لم يكن هذا اختباراً مثالياً، لكنّ الأمور مضت بشكل جيد. أخذته إلى أفضل المطاعم، وبما أنّ الجالية الإيطالية في ملبورن ضخمة، وموجودة هناك منذ أجيال، كان الجميع، بمن فيهم النّادلون، يتوقّفون مندهشين حين يرون جوسيبي.

هل كانوا يتعرّفون إليه؟

نعم. كانوا يتعجّبون: "ماستر تورناتوري. ماذا تفعل هنا؟". عندما بدأنا تصوير الفيلم، تنقّلنا تقريباً في أنحاء إيطاليا كلّها: ترييستي، بارما، بولسانو، روما، ميلان، وغيرها. كان جوسيبي بطبيعة الحال ملهماً وخلّاقاً. أحببت أسلوب التمويه في الفيلم، فما تعتقده ليس هو ما تشاهد، وما تعتقد أنّك تشاهده ليس هو الحقيقة. مورّكوني هو من ألّف الموسيقى. أنْ أحصل على ذلك في سيرتي الذاتية وحده ربح كبير، لأنّي كنت دائماً من محبّي أعماله. حظيت أيضاً بفرصة مقابلته، فوجدته رجلاً عظيماً.

سؤالي الأخير عن "البحث عن نيمو"، حيث أدّيت صوت البجعة. هذا أحد الأفلام التي أحبّ إعادة مشاهدتها مراراً. كلّ شيء فيه صادق وأصيل. كيف تتذكّر اليوم هذه التّجربة؟

أبنائي أيضاً من جيل "بيكسار"، افتتنوا بـ"حياة حشرة" و"شركة المرعبين"، وكلّ تلك الأفلام الرائعة. ابنتي أيضاً متيّمة بأفلام ميازاكي، فيما أحبّ ابني أكثر أفلام التصوير المتعاقب ودمى الصلصال. الأمر بمثابة حلم يتحقّق، أنْ تتموقع أحداث فيلم لـ"بيكسار" في سيدني، وأؤدّي فيه دور بجعة أسترالية. قدم المخرجان أندرو ستانتون ولي أنكريتش إلى سيدني، واستخدمت جهاز عرض بحجم 4 كيلو بايت، لم يكن بعد موجوداً في أي صالة سينما في أستراليا، بداية 2003. شاهدنا مشهداً من الفيلم لهضبة من الرمال في قعر المحيط. كان ذلك بحدّ ذاته عملاً فنياً يأخذ لبّك بنقائه. بعد ذلك، خرجا في جولة استطلاعية على متن قارب من مرفأ سيدني. عند عودتهما، سألتهما: "كيف كان ذلك؟"، فأجابا: "كان الأمر أشبه بواقع يحاكي خيالاً افتراضياً حقيقياً". كان يمكنني أنْ أتخيّل ما يقصدانه، لأنّ كلّ شيء في ما تخيّلاه كان يحاكي هندسة المدينة بشكل فنّي أصلي، يكاد يتفوّق على تسطيح الواقع الذي نعيشه.

المساهمون