جوع في السودان ومصر

25 نوفمبر 2014

تعددت أنواع القهر في مصر والسودان طوال تاريخهما (سبتمبر/1992/أ.ف.ب)

+ الخط -

تتنازع شعبي السودان ومصر مقارعة الجوع، بينما تعمل حكومتاهما على إبقائه سلاحاً يُضعف القُوَى، وتخور دونه الآمال. ففي ذهن الانقلابيين أنّ الجياع لا يثورون، كما في حالة السودان، أو لا يجرؤون على إعادة الكرّة، مرة أخرى، كما في حالة مصر، بعد أن يضيق الرزق ويستحكم العدم ويتفشى الفقر ويرقّ الحال.
عندما كان وادي النيل رمزاً للخصب والنماء، كانت تصح مقولة فولتير على جموع العمال والمزارعين إنّه ليس غير هؤلاء من يعرفون قيمة الوقت، إنّهم، دوماً، يدفعون ثمنه. وذلك حتى ينعموا به، ويمتد الخير إلى غيرهم من الأهل والعشيرة. أمّا اليوم، وفي زمان جدب وادي النيل هذا، فإنّ الجميع يدفعون الثمن. وما يحدث للأرض والزرع حدث لتاريخ وادي النيل، في أغلب المجالات الإنسانية، ويحدث في حاضرها، ليصبح غداً ضرباً من التاريخ، نستميت في التبرؤ من وصمته وخذلانه.
والتباكي ليس على أزمنة الرخاء التي تدور كؤوسها، وتدول أيامها، ولكن، في هذه اللحظة، الكل يبكي على ثورة تحققت في مصر، ثم سرعان ما لفحتها بواكير الرياح العواتي. وعلى ما أنجزه التاريخ من ثورات في السودان، منذ ثورة أكتوبر/تشرين الأول 1964، مروراً بثورة أبريل/نيسان 1985، والتي لم تصمد في وجه دبابات اقتنصت الديمقراطية في ليل بهيم.
ومثلما دعت الحكومة السودانية شعبها، المتقشف أصلاً، إلى مزيد منه، ورفعت الدعم عن المحروقات، أصدرت الحكومة المصرية قراراً يقضي بإلغاء الدعم في السنوات الخمس المقبلة عن الكهرباء والبترول والغاز الطبيعي، ثم دعت الشعب إلى الذهاب إلى أعمالهم وجامعاتهم، سيراً على الأقدام. وكأنّ هناك شبهة في تبادل الخبرات بين حكومتي البلدين، بعد تقاربهما أخيراً، حتى وصل التوافق إلى فقه ماري انطوانيت التي دعت شعبها إلى تناول الجاتوه، عندما لم يجد خبزاً.
حدث هذا كله بدعوى الإصلاح الاقتصادي، وهذه السياسة عند الانقلابيين تُحدث خللاً بدلاً عن التوازن، بل تغيّر مسار المعادلات، وتضاعف من الظلم والقهر الاجتماعي، بدلاً من العدل والتعايش السلمي. ما زال الناس في مصر والسودان ينتظرون تطوراً اقتصادياً يسدّ الحاجة، وينعكس إيجاباً على المواطنين، في تحسين نوعية حياتهم، بما يشمل توفير ضروريات الحياة من غذاء وكساء وعلاج وتعليم.
تعددت أنواع القهر في البلدين على طول تاريخهما، سواء كان قهراً سياسياً أو اجتماعياً أو اقتصادياً، أما قهر رغيف الخبز أخيراً فكان الاستسلام له واضحاً، لأنّه أتى بعد قهرٍ اجتماعي، أسّس للرضوخ والاستكانة. وبقي المؤمنون الصابرون يدعون أن يزول الفقر والجوع، ويدعون، كما دعا المسيح عليه السلام: "ربنا أعطنا خبزنا كفاءنا، أعطنا خبزنا اليوم".

أما الفرق فيتمثل في تصرف القطاعات العريضة من شعبي البلدين إزاء هذا القهر. ففي حين يرى شعب مصر الخروج إلى الشارع، مهما كان الثمن، سبيلاً للتعبير عن الاستياء من الأوضاع المعيشية، وله أثره الفعال في إشعال ثورات الجياع والمقهورين، تُشلُّ معظم القطاعات السودانية، بسبب طول المعاناة، من إزمان آلام الماضي، وتفاقم معاناة الحاضر، وانسداد آفاق المستقبل. والنتيجة هي التسليم لابتلاءات القهر المتعنت، والانكفاء والتقوقع على الذات، بدلاً من مجابهة الصعاب، وكبح النفس عن الطموحات، في محاولة لإيهام النفس بتقبل المصير.

لكم تمنينا أن نتدثّر بوعود محققة، بدلاً من الوعود العرقوبية، من أجل تنشيط فاعلية السلطة. ولكن، في الواقع الكل حامل همومه اليومية، ويرنو بالطرف إلى أجهزة تنفيذية هي عصب الحياة، تلمّع نفسها بمسمياتٍ لا تعبّر عنها، وتختزل المساحة التي يتمدّد فيها شعبا مصر والسودان، في قهر قطعة خبز.
وحتى مع الجوع، هناك أمل بأن يتم كسر رتابة السكون الشعبي، الضارب بأطنابه، على أركان البلدين، ليتمتم الجميع بأنّ الأماني والأحلام العريضة في رجوع الحق ليست مجرد تضليل. ربّ غدٍ يجيء، وهو يحمل روحاً جديدة ومشاعر تغييرية وتوعوية، ربما تكون بشارة لدحر تحكّم أقلية صغيرة في أرزاق الناس وقوتهم اليومي، في ظل تنازل الدولة عن دورها، أو ربما يكون إرهاصاً لما هو أعمق من تحولاتٍ تعصف بظلم العباد وجور السوق المتوحشة التي تزيد الأغنياء غنى، وتسحق من هم تحت خط الفقر. فليس من العدل أن تأتي هذه السياسة على حساب الفقراء الكادحين المتقشفين بالطبيعة، وأكثر آمالهم أن يسدوا النقص في احتياجاتهم الضرورية من مأكل وملبس ومسكن.

لا زال التاريخ يذكّرنا بحضارة وادي النيل، المبنية على رخائه، فتخطف الأبصار الومضات الحقيقية لصانعي ذلك التاريخ، فتغشى الأفئدة، أحياناً، صور موهومة عما كان بالبلدين.

لا يستلطف أهل الحكم الرجوع إلى عبر التاريخ، خصوصاً لو كانت تشي بأنّ الكثيرين الذين مرّوا من هنا قد يكونون مجرد ظواهر مختلفة قليلاً. ولا يغيّر من صورهم وحكاياتهم، حتى ولو استطالت إقامتهم، وجثموا فوق صدر الشعب عقوداً عدداً. في الغالب، السيئ يُذكر بشبيهه. ويتجلى ذلك بالمنتج السلوكي في الشأن العام، شاغل الكل، وما يجري في واقع البلدين يؤهل ذكره لمزاحمة التاريخ، حتى ولو لم يغادر ضفتي النيل.

دلالات
8615DCBC-E386-43F8-B75E-8FF0C27360A3
منى عبد الفتاح

كاتبة صحفية من السودان. حاصلة على الماجستير في العلوم السياسية. نالت دورات في الصحافة والإعلام من مراكز عربية وعالمية متخصصة. عملت في عدة صحف عربية. حائزة على جائزة الاتحاد الدولي للصحفيين عام 2010، وجائزة العنقاء للمرأة المتميزة عام 2014.