13 نوفمبر 2024
جورج حاوي... نكاية بالنسيان
بات العثور على مقالات أو تقارير تستذكر جورج حاوي المغتال في مثل هذا اليوم قبل 14 عاماً، 21 يونيو/حزيران 2005، عام اغتيال معارضي النظام السوري وأدواته في لبنان، مهمة شاقة. ليس لأن الذكرى تعني النوستالجيا بالضرورة، ولا لأن النوستالجيا شعور رجعي بالنسبة للشيوعيين على ما كان يُنقل عن لينين قوله، بل لأن إمبراطورية السوشال ميديا وذاكرة الإنترنت التي تتحكم بما نستحضره وما ننساه، لا وقت لديها للماضي، خصوصاً لِما كان مفيداً استذكاره منه.
نكاية بنعمة النسيان، تطيب استعادة الرجل اليوم وإن كان من باب الفانتازيا والإعمال الفكري الذي لا طائل منه، بما أن التاريخ لا يعترف بالفرضيات من نوع "لو لم يمت فلان... هل كان تغير شيء؟".
فقط لمجرد الفانتازيا، أو للتحسر، يمكن طرح أسئلة افتراضية في ما يتعلق بحاوي أو بصنف من نخبة لبنانية عروبتها و"وطنيتها" ما كانت تعني إلا ديمقراطية وتحررا وعدالة وانفتاحاً وانتماء عربياً حضارياً ــ ثقافياً يفيد بقية الحضارات ويستفيد منها. من بين هؤلاء المختارين سمير قصير الذي سبق حاوي بـ19 يوماً فقط على لائحة اغتيالات ذلك العام الأسود، وجوزف سماحة الذي لحق بهما بعد عام ونصف العام بوفاة طبيعية. على كل حال: هل كان بقاء هؤلاء على قيد الحياة من شأنه أن يحدّ من تدفق هذا النهر من التخلف والعنصرية والرجعية الدافق في لبنان؟ أم أنهم كانوا ليستسلموا أمام هذا السيل الجارف من الفاشية واضطهاد اللاجئين وتأبيد الجهل معياراً للحكم وللتحكم؟ هل كانوا قادرين على صناعة رأي عام مضاد لما يتفوه به نازيو العصر في هذا البلد؟
في مطلع الألفية الثالثة، كانت مجموعة من 14 طالباً وطالبة شيوعياً وشيوعية، تحاول تأسيس فرقة حزبية في الفرع الثاني لكلية الحقوق والعلوم السياسية في الجامعة اللبنانية الواقعة في منطقة اسمها جل الديب شرقي بيروت. ولمَن لا يعرف، الفروع الثانية في هذه الجامعة، هي تلك الواقعة في المناطق ذات الغالبية المسيحية التي تهيمن عليها بطبيعة الحال أحزاب اليمين المسيحي التي كان يسميها أبو أنيس انعزالية، بينما الفروع الأولى "مخصصة" لهيمنة الأحزاب الطائفية الإسلامية. كان أفراد تلك المجموعة يلتقون حاوي بانتظام، بفعل بقائه قدوة لهم رغم خروجه من التنظيم الحزبي، وكانوا يُكثرون التظلم لديه من أنهم يعملون لأشهر على "سرقة" رفيق هنا ورفيقة هناك من الأحزاب الطائفية، بالإقناع والمحاججة وبإعارة الكتب والأفلام، ليأتي خصومهم، أو زعماء خصومهم، ويلمّوا آلاف الأنصار الجدد بتصريح طائفي ــ عنصري واحد، مثل "بدها تضل جراسنا تدق" و"اعرف عدوك السوري عدوك"... إلى آخره من تفاهات العونيين والقواتيين والكتائبيين في حينها. لم يكن حاوي حيال ذلك يملك إلا القول لنا، نحن المتحمسين لتغيير العالم آنذاك، انطلاقاً من غرف الكلية المتهالكة، إنه كُتب علينا أن نصطاد السمك، سمكة بعد سمكة، بالصنارة، بينما يأتي غيرنا ليلم آلاف ثمار البحر بالشباك، في رمية واحدة. وكأن حاوي كان يستمع من قبره لما يتفوه به جبران باسيل.
لا نعرف إن كان اختيار قتلَة جورج حاوي، يوم الانقلاب الصيفي، أو أطول نهار في السنة وأقصر ليل، لتصفيته، مقصوداً أو لا. لكن يُستبعد أن يكون مجرم وضيع، قد انتقى عن وعي موعداً لجريمته متزامناً مع ذكرى ولادة جان بول سارتر ووفاة أحمد سوكارنو ورحيل عاصي الرحباني وعيد الموسيقى، وكل ذلك حصل أو تم تحديده في 21 يونيو. لكن الأكيد، أن القاتل تقصّد ذكرى يوم الشهيد الشيوعي الذي جعله حاوي نفسه تاريخاً سنوياً على روزنامة حزبه يوم كان أميناً عاماً، لاغتياله في هذا اليوم بالذات، فاللؤم والغدر من صفات مجرمين كهؤلاء القابعين في قصر المهاجرين وفي أحياء لا تحصى في بيروت.
نكاية بنعمة النسيان، تطيب استعادة الرجل اليوم وإن كان من باب الفانتازيا والإعمال الفكري الذي لا طائل منه، بما أن التاريخ لا يعترف بالفرضيات من نوع "لو لم يمت فلان... هل كان تغير شيء؟".
فقط لمجرد الفانتازيا، أو للتحسر، يمكن طرح أسئلة افتراضية في ما يتعلق بحاوي أو بصنف من نخبة لبنانية عروبتها و"وطنيتها" ما كانت تعني إلا ديمقراطية وتحررا وعدالة وانفتاحاً وانتماء عربياً حضارياً ــ ثقافياً يفيد بقية الحضارات ويستفيد منها. من بين هؤلاء المختارين سمير قصير الذي سبق حاوي بـ19 يوماً فقط على لائحة اغتيالات ذلك العام الأسود، وجوزف سماحة الذي لحق بهما بعد عام ونصف العام بوفاة طبيعية. على كل حال: هل كان بقاء هؤلاء على قيد الحياة من شأنه أن يحدّ من تدفق هذا النهر من التخلف والعنصرية والرجعية الدافق في لبنان؟ أم أنهم كانوا ليستسلموا أمام هذا السيل الجارف من الفاشية واضطهاد اللاجئين وتأبيد الجهل معياراً للحكم وللتحكم؟ هل كانوا قادرين على صناعة رأي عام مضاد لما يتفوه به نازيو العصر في هذا البلد؟
في مطلع الألفية الثالثة، كانت مجموعة من 14 طالباً وطالبة شيوعياً وشيوعية، تحاول تأسيس فرقة حزبية في الفرع الثاني لكلية الحقوق والعلوم السياسية في الجامعة اللبنانية الواقعة في منطقة اسمها جل الديب شرقي بيروت. ولمَن لا يعرف، الفروع الثانية في هذه الجامعة، هي تلك الواقعة في المناطق ذات الغالبية المسيحية التي تهيمن عليها بطبيعة الحال أحزاب اليمين المسيحي التي كان يسميها أبو أنيس انعزالية، بينما الفروع الأولى "مخصصة" لهيمنة الأحزاب الطائفية الإسلامية. كان أفراد تلك المجموعة يلتقون حاوي بانتظام، بفعل بقائه قدوة لهم رغم خروجه من التنظيم الحزبي، وكانوا يُكثرون التظلم لديه من أنهم يعملون لأشهر على "سرقة" رفيق هنا ورفيقة هناك من الأحزاب الطائفية، بالإقناع والمحاججة وبإعارة الكتب والأفلام، ليأتي خصومهم، أو زعماء خصومهم، ويلمّوا آلاف الأنصار الجدد بتصريح طائفي ــ عنصري واحد، مثل "بدها تضل جراسنا تدق" و"اعرف عدوك السوري عدوك"... إلى آخره من تفاهات العونيين والقواتيين والكتائبيين في حينها. لم يكن حاوي حيال ذلك يملك إلا القول لنا، نحن المتحمسين لتغيير العالم آنذاك، انطلاقاً من غرف الكلية المتهالكة، إنه كُتب علينا أن نصطاد السمك، سمكة بعد سمكة، بالصنارة، بينما يأتي غيرنا ليلم آلاف ثمار البحر بالشباك، في رمية واحدة. وكأن حاوي كان يستمع من قبره لما يتفوه به جبران باسيل.
لا نعرف إن كان اختيار قتلَة جورج حاوي، يوم الانقلاب الصيفي، أو أطول نهار في السنة وأقصر ليل، لتصفيته، مقصوداً أو لا. لكن يُستبعد أن يكون مجرم وضيع، قد انتقى عن وعي موعداً لجريمته متزامناً مع ذكرى ولادة جان بول سارتر ووفاة أحمد سوكارنو ورحيل عاصي الرحباني وعيد الموسيقى، وكل ذلك حصل أو تم تحديده في 21 يونيو. لكن الأكيد، أن القاتل تقصّد ذكرى يوم الشهيد الشيوعي الذي جعله حاوي نفسه تاريخاً سنوياً على روزنامة حزبه يوم كان أميناً عاماً، لاغتياله في هذا اليوم بالذات، فاللؤم والغدر من صفات مجرمين كهؤلاء القابعين في قصر المهاجرين وفي أحياء لا تحصى في بيروت.