جنيه من جيب محمّد أهداه لي حسن

17 اغسطس 2018
+ الخط -
(1)
الكون قفل فجأة سابني في العدم واقف
نهر الشوارع فضا، نهر البشر ناشف
يا أمي حق البُكا يبقى حزام ناسف
يطبق الأرض زي التوب حيطان وأثاث

(2)
في يناير/ كانون الثاني 2017 زارني شقيقي الأصغر حسن البنا في الدوحة، بعد غياب دام قرابة أربع سنوات منذ تركت مصر نهاية عام 2013. بعد وصوله بوقت قليل أهداني "جنيها واحدا مصريا فقط لا غير"، قال لي فيما معناه: "ده من ريحة محمد".



(3)
في عصر يوم الجمعة 16 أغسطس/ آب 2013 تلقيت اتصالا هاتفيا من شقيقي حسن أثناء استعدادي لمغادرة ميدان رمسيس، بعد تزايد زخات الرصاص حولنا وارتقاء العشرات من الشهداء.. حسن: "عبد الرحمن روح على المستشفى الميداني في مسجد التوحيد عشان محمد خد رصاصة وتقريبا مات".

قبلها بيوم كان آخر اتصال بيني وبين محمد، يسألني إن كان هناك ثمة أخبار جديدة بخصوص نجله أحمد، فأخبرته: "لا جديد.." أحمد هو ابن أخي محمد الأكبر، كانت أخباره قد انقطعت منذ يوم الثلاثاء 14 أغسطس/ آب بعد فض رابعة، ولم نعثر عليه بين الأحياء أو بين الأموات بعد أن أضنانا البحث.. لاحقا وبعد أسابيع كثيرة عرفنا أنه كان من بين المعتقلين.

ذهبت إلى مسجد التوحيد حيث المستشفى الميداني، فوجدت حسن قد سبقني إلى هناك يحاول أن يبدو متماسكا..


(4)
في 4 فبراير/ شباط 2018 اختُطف حسن من قبل الأجهزة الأمنية وبقي قيد الإخفاء القسري 15 يوما، قبل أن يظهر متهما في القضية 441 أمن دولة بالانضمام إلى جماعة إرهابية، وتلقي تمويلات خارجية، ونشر أخبار كاذبة..

(5)
مرت أمس الذكرى الخامسة لرحيل النجار البسيط الذي أعطانا ما فاق طاقته بكثير.. رحل شقيقي الأكبر محمد مغدورا برصاص الجيش والشرطة في شارع رمسيس بالقاهرة، وهو يبحث عن ولده المفقود حينها.. وأعلنّا أننا لن نتقبل العزاء، وأن بيننا وبين القتلة ثأر، سنأخذه يوما ما، طال الوقت أم قصر.. وإني أستعد لهذا اليوم!

في رابعة وما تلاها لم يؤلمنا الموت والفراق بقدر ما آلمنا الغدر. واجه محمد كما غيره الموت مرات كثيرة بصدر عار، كان يسعى إليه كما كنا نسعى إليه مقبلين، كنا نرى القاتل وندركه.. وكان يجبن أمام شجاعة أعيننا أحيانا ويفر هاربا، في رابعة وما تلاها كان القاتل أجبن من أن تأتيك رصاصته وعيناه في عينيك، كان يتخفى في كل شيء.. ما نسينا.. ولن ننسى.. رصاصة الغدر تقتل مرتين.. وسنثأر مرتين.

من بين المرات القليلة التي لا تتجاوز أصابع اليد الواحدة التي رأيت أبي فيها يبكي، كانت يوم دفن أخي محمد. كنا في مؤخرة الجنازة نسير ببطء، وكان أبي يتكئ علي، عندما وصلنا إلى القبر، كان قد أغلق، أصر أبي على فتحه وهبط إلى القبر، ثم رفع الكفن عن جبهة محمد وقبّلها... وبكى... كنت أتمنى أن تكون هناك صورة لهذا المشهد، لو كنت أجيد الرسم لرسمت هذه الصورة للشيخ الكهل وهو يودع ولده الأكبر.

(6)
يا أمي يحيا الحزام الناسف العادل
يا أمي بيسوّي بين القتلى والقاتل
يا أمي ويريح الاتنين من الباطل
ويشرّب اللي سقونا المُر نفس الكاس

(7)
إنسان بسيط خدوم، وبساطته كانت سره الأبدي.. "محمد علي مبارك" لم يترك مصابا أو شهيدا مستقبليا إلا وساعد في نقله وإغاثته على موتوسيكله أو الإسعاف الطائر، حتى كان ذلك سبب استشهاده، أراد الله أن يأخذه إليه وهو في خضمّ إغاثته وإنقاذه للمصابين ليُبعث على صنيعه.

محمد شارك قلباً وقالباً في الأيام الـ18 لثورة يناير، وكان هناك في موقعة الجمل يحارب الجمال فعلياً، ويردّها عن المعتصمين بميدان التحرير، كما شارك في نقل المصابين خلال جميع الأحداث أثناء حكم المجلس العسكري وحتى مذبحة رابعة، ولما اختفى ابنه الأكبر وقت المجزرة راح يبحث عنه في اليومين التاليين، فكانت أحداث رمسيس الثانية، وحينما وجد نفسه وسط التظاهرات المصاحبة للإصابات الدامية آثر إنقاذ المتظاهرين على البحث عن فلذة كبده، فرجع محمولاً على المحفّة يلفظ أنفاسه بطلق ناري في الصدر بحجم خيبة وطن.


ورغم بساطته وبُعده الإنساني إلا أن لهذا البُعد عمقاً ذا جلالة، فمحمد كان يحتفظ بالملابس التي غرقت بدماء المصابين في كل الأحداث على مدار الثورة، شاهدةً على جرائم العسكر. لم يكن يغسلها من الدماء وإن ساوموه عليها بغالي الثمن، لقد كان يعلّقها على جدران منزله، حتى كان آخرها ملابسه التي غرقت بدمائه، ولقي بها ربه شاهداً وشاهدةً على الغيلة بحق الثورة والثوار.

(8)
في ذكرى ثورة يناير من كل عام، أبحث عن المغمورين في الثورة وأكتب عنهم لنستحضرهم، فيحاصرني حضورك في موقعة الجمل، وأنت تحاول منعي من التقدم، لأنك اعتقدت أن لي صوتاً مسموعاً وأن روحك ليست مهمة كروحي! استمع إلى "هل تُرانا نلتقي؟" مرات عديدة، ويطاردني خيالك طويلاً يا محمد.

(9)
ألعن ما في ذكرى هذا اليوم أن الجدل ما زال مستمرا حول من ماتوا، ولا نضال حقيقياً في سبيل حقوقهم.. ألعن ما في ذكرى هذا اليوم هو "إهانة الموت".

ألم الإهانة أشد فتكا من الموت ذاته.. ونحن ننقل جثمان أخي محمد في سيارة صديقنا ياسر نعمان، بعد أن خرجنا من ميدان رمسيس بأعجوبة، بعد أن عجزنا عن إيجاد سيارة إسعاف تقلّ جسده، مررنا على ما تسمى "لجنة شعبية"، وأصرّت على تفتيش الجثمان، خشية أن نكون قد خبأنا فيه أسلحة.

ونحن نبحث عن ثلاجة موتى في المستشفيات التي لا تريد أن تستقبل الجثامين -حسب التعليمات-، لنواريها فيها مؤقتا حتى نستكمل إجراءات الدفن، وبعد اتصالات ومحاولات عدة، استطعنا أن نحصل على "غرفة مكيفة" في أحد المشافي عن طريق صديقنا الدكتور علي المشد.

(10)
فيما مضى، حين تمر جنازة أمام تجمع أو مقهى، يترك الناس ما في أيديهم، ويقفون إجلالا حتى تعبر الجنازة، وهم يشيرون بسبابتهم بعلامة الشهادة.

(11)
في الذكرى الثانية لمحمد كتب حسن: "أنا يا محمد لا أؤمن بالحرب، ولن أسعى للقصاص لك -على هذه الطريقة- يوماً، إن القصاص يا صاحبي، هو ألا تُقتل مرة أخرى، بقتل غيرك، وهذه معضلة، فلا نحن سنسلم للقاتل، أو نصطلح معه، ولا هو سيكفّ عن قتلنا.. فأين الطريق؟

أنا عاجز تماماً أمامه، حتى إنني وإن بتّ أؤمن أن لا سبيل للقياه مرة أخرى، وأن كلماتي هذه لن تصله، إلا أنني لم أزل حين أشم رائحة "النشارة والغراء" فلا أشم إلا رائحة أخي، فأي وطن هذا الذي لا يترك لنا من أخوتنا إلا رائحة الخشب.. إن الذكرى موجعة يا صاحبي، والنسيان نذالة، فهل يا حبيبي إلى خلاصٍ من سبيل؟".

في الذكرى الثالثة كتب حسن: "إن البوح يا صاحبي عورة، وإن رثاءك يا محمد عورتنا، فلسنا مطيقيه فنكتمه، ولسنا من ينزف دمعاته لجبان، فاعذرني يا أخي، إن بكيتك في غير موطن البكاء، أو إن تكلفت الفخر بمقتلك أغطي به انكسارنا، فأنت تعرف أن الفخر حقيقة انتشال أخيك من بئر الموت، لا أن يغرق فيه، وأنت في مكانك تنوح، ذلك هو العجز".

(12)
اليوم يثقبني الحزن مرتين.. مرة لذكراك يا محمد، ومرة لأن الأسوار غيّبتك يا حسن.. ولا أجد مواساة إلا أن أشم رائحتكما في هذا الجنيه!



(13)
سنظل نذكر جرمكم حتى ونحن نشرب الخمر، وستظل الذكرى تؤرقنا ونحن نضاجع النساء! فكما قال القائل: لم ينجُ من رابعة إلا من مات فيها!

...
*الأبيات في (1) و(6) للشاعر تميم البرغوثي

عبد الرحمن فارس
عبد الرحمن فارس
محرر أول، من أسرة العربي الجديد. (طفلٌ صغيرٌ في جحيمِ الموجِ حاصرهُ الغرق). منفي، خامل اجتماعيا، مؤمنٌ بالحرية. مدينٌ لثورة 25 يناير بكثيرٍ لا ينتهي.