جنينة الأسماك

01 ديسمبر 2014
+ الخط -
لا شيء يعكّر صفوها هذا الصباح. ولا حتى اعتذار المقهى الصغير، الذي دخلاه متأخرًا، عن توفير أي وجبة ساخنة لأنّ الكهرباء مقطوعة ٌمنذ الفجر. كاد يفقد أعصابه بعد أن سأل عن أكثر من طبق، وصار النادل يهزّ رأسه بأن لا، لكنها مدّت كفّها باتجاه يده على الطاولة وضغطت عليها.

نظر إليها، ابتسمت له ففهمت عيناه ما تريد، ولم يزدْ على ما قال آنفًا للنادل الشاب بشعره الطويل الذي يغطي عنقه وبداية ظهره. 

أنهيا إفطارهما البارد وخرجا متخاصرين باتجاه الباب. ركبا السيارة من دون وجهة محددة، وعندما مرّا أمام جنينة الأسماك، طلبت منه التوقّف لترى المكان الذي لطالما رأته في مشاهد قصيرة من أفلام الأبيض والأسود، وقرأت عنه في الروايات الكلاسيكية حقبة الخمسينيات والستينيات، التي كانت تعشقها. 

ركن السيارة بصعوبة لضيق المساحة، لكنّ ذلك لم يكن ليفسد مزاجهما الرائق. اتجها إلى بوابة الحديقة، يدًا بيد كعاشقين صغيرين. تركته يسبقها ليبتاع بطاقتي دخول، ومشت صوب لوحة الإعلانات خلفه بخطوات. 

جاءها بعد دقائق قصيرة وقد أحمرّ وجهه قليلًا وبدا عليه الضيق. أعطاها البطاقتين ومضى قبلها مسرعًا باتجاه المدخل من دون أن يقول شيئًا. لحقت به بعد أن وسّعت خطواتها ولفّت ذراعها حول ساعده. 

تمشيا حول البركة صامتين؛ البركة المهملة التي تحولت لمستنقع صغير مغطى بأوراق الشجر اليابس. وبحثا عن كراسٍ نظيفة، اختارا طاولة في ناحية هادئة، أخرجت منديلًا مسحت به الخيزران المهترئ، وناولته منديلًا آخر لينظف مقعده. 

زادت حرارة الجو بعد أن صارتْ الشمس في كبد السماء. نظرتْ باتجاهه وهي تبحث عن شيء في حقيبة يدها، بعد لحظة صمت طالت بينهما، قال لها إن السيدة المحترمة على شباّك التذاكر نظرت إليه بارتياب، وبصوت حازم ومباشر نبّهته بأن "جبلاية القرود مقفولة"! صمت مرّة أخرى ثم سألها: "ألم تلاحظي كيف كانت تحدّق بك؟". 

تراكض الأطفال حولهما، تطلّعت إليه بتعجب وقالت "لم ألاحظ نظراتها، كنت أطالع الملصقات". حاولت أن تجفّف بقعة ماء صغيرة خلّفتها عبوة الماء الباردة على ثوبها، وأردفت قائلة: "أهي قالت ذلك حقًّا؟ لكننا مررنا بجانب الجبلاية قبل قليل وكانت كهوفها الصغيرة مشرّعة للزوار بلا أسياج". "لا بد أنها محرومة!" أجابها. ضحكتْ بصوتٍ عالٍ علّها تخفّف من حنقه، وتناولت قنينة المشروب الغازي من يده، وشربت مباشرة من بعده. 

سبقته بالوقوف وهو يدفع حساب المرطّبات، أخفضتْ رأسها قليلًا في احتشام مصطنع، ثم نظرتْ له رافعةً بصرها بإغواء، وقالت له بما يشبه الهمس، وهي تمدّ يدها باتجاهه: "تعال". أخدته باتجاه "جبلاية القرود" وفي أحد كهوفها الضيّقة تواريا عن الأنظار. وقفا في الظلّ، استند إلى جدار الكهف غيرِ المستوي، وشبّت على أطراف أصابعها. شبكت ذراعيها حول عنقه وقبّلته عدّة مرات. استغرقا في تلك القبل للحظات، حتّى أن أصوات الخفافيش المرعبة داخل أكبر الكهوف لم تعكر صفوهما. 

سمعا صدى تعثّر خطوات الحارس الكسول الذي تبعهما. ابتعد عنها بصعوبة وارتقى الدرج القريب. مسحت فمها بظاهر كفّها وتبعته، وهي تتهادى في قميصها البني الفضفاض. 

لا شيء يعكر صفوها هذا المساء. ولا حتّى فظاظة الندل في المطعم السويسري الأنيق الذي جلسا في حديقته الحميمة بأنوارها الخافتة وأشجارها التي تتماوج أغصانها الرفيعة محدثةً أصوات خشخشةٍ محببة. النسائم الباردة تداعب وجهها وتعبث بخصلات شعرها الفوضوي، وتضيء وجهها بابتسامة ثابتة. 

تقول له بأكثر من طريقة بأنها سعيدة؛ تقولها بعينين ممتنتين، تقولها بابتسامتها المطمئنة، تقولها بيدٍ تُربت على يده بحنية ووداعة، وفي النهاية تصرّح بها بصوتٍ عال عندما تخفتُ ضوضاء المكان. 

لا يكدّر رومانسية اللحظة، الجلبة التي يثيرها الفتيان على الطاولة القريبة الممتدّة، التي تلمّ حولها ما يقارب العشرين شابًا وشابّة، يصيحون على بعضهم بألقاب تهكمية، ويطلقون تعليقات ساخرة، ويستغرقون في ضحكات حادّة متصلة. 

لا ينتبه هو لأصوات المولّدات الكهربائية الرتيبة والمزعجة. ولا تلاحظ هي أسراب الفتيات الثرثارات، غاديات وعائدات من الحمّام الجانبي. يستغرقان في الحديث ولا يدركان إلا بعد مرور وقتٍ طويل، وقد تطلّع النادل إليهما بنفاد صبر، أن الآخرين قد غادروا ولم يبقَ غيرهما في الحديقة. 

يمرّ كبير الندل ليسألهما إن كان "كلّ شيء على ما يرام؟" بابتسامة ملفقة عريضة. تبادر هي بالإجابة أنّ كلّ شيء رائع وفوق ما توقعا، لكنها تسأله لماذا لا يضعون شيئًا من الموسيقى؟ يعتذر المسؤول بأن الوقت قد تأخّر وبأنهم احترامًا للجيران يطفئون الموسيقى مبكرًا، فتقول له "ولكن اليوم عيد ميلادي، وأريد أن أرقص معه".

مشيرةً برأسها صوب المسترخي على الكرسي أمامها مستسلمًا لها ومتابعًا حديثها بنظرة رضا. يعتذر منها المسؤول مبديًا أسفه مرّة أخرى، ويتمنّى لها سنةً سعيدةً وأعوامًا مديدة من الصحّة وراحة البال، بينما تبدأ أضواء المطعم في الانطفاء واحداً بعد الآخر إيذانًا بموعد الإغلاق. جمعا حاجياتهما، وقاما. تبعهما النادل لاهجًا بعبارات الوداع، حتى وصلا لدى الباب المشرّع على الطريق العام المزدحم. شكراه بضيق وانصرفا. 

كان يأمل لو ترك لهما النادل فرصةً ليطبعَ قبلةً صغيرةً على خدّها وهو يقول لها كلّ عام وأنتِ بخير، ويهديها لوحة منمنمةً لبوذا الضاحك. لكنّه اضطرّ في النهاية أن يسلّمها الصورة المغلفة بعناية في ظلام السيارة. 

لا شيء يعكّر صفوها هذه الليلة. لا نظرات البواب الفضولية وابتسامته الغريبة وهو يفتح لها الباب ويسألها: "كيف كانت سهرتك يا أفندم؟" مثبّتًا عينيه على الرجل خلف المقود. ولا يقلقها ازدحام المدخل الواسع حيث انتظرته، على أن يترك سيارته للخادم المسؤول عن ركن العربات ويلحق بها.

ولا تضايقها الآن حلقات الرجال المنعقدة في البهو رغم انتصاف الليل، تضجّ الصالة بدخانهم وروائح عطورهم القوّية، يشربون الشاي والقهوة ببطء، ويثرثون بأصوات عالية لتمضية الوقت، محدّقين في كلّ سيدة تدخل وتخرج وكأنها فريسة محتملة، مهيأة للانقضاض. 

لكنه يظهر بين الحشد سريعًا، محمّلًا بالأكياس الورقية، متمهّلًا، ومستطلعًا بعينيه المترقبتين مكانَ وجودها. تلتقطُ عيناه البني المحمر فيسرع باتجاهه، بينما تسبقه هذه المرّة بخطوات قصيرة إلى الممرّ الواسع حيث المصاعد الرحبة؛ كلّ واحد منها يقابل الآخر، بمرايا صقيلة لامعة تعكسُ رخام الجدران الفخم، ونباتات الظلّ المصفرّة في الزوايا، وتوتّر النزلاء الذين يثبّتون نظراتهم على الأسهم الحمراء والخضراء طالعة ونازلة. 

رحّب بها حارس المصعد بحفاوة وهو يطلبه لها، ويشير إليها ناحية المصعد الذي سيفتح أولًا، ثم التفتَ إلى الرجل الواقف على بعد خطوة منها ليسأله: "حضرتك مقيم معانا؟". تلون وجه "حضرته" والتهب خداه، لمعت حبات العرق الدقيقة على جبهته وفوق شفتيه، وأطرق ناظرًا للأكياس في قبضة يده، وقال بصوت حاول أن يبدو ثابتًا: "ألا ترى؟، أنا هنا لأساعدها". 

أخذت الأكياس من يده مغتاظةً، لم تلتفت باتجاهه وقد مضى سريعًا من حيث جاء. انزاح باب المصعد بعد ثوانٍ. وقفت فيه وحيدةً تنظر لقامتها التي تبدو أطول ممّا هي عليه في الواقع، وليدها اليمنى التي أثقلتها الحقيبة. مرّت اللحظات التي استغرقها المصعد للوصول إلى الطابق التاسع وكأنها الأبد. 

دخلت غرفة الفندق المنفردة بعد منتصف الليل بقليل، أشعلتْ النور، وانتبهت لوجود مظروف أبيض مرفقٍ بقطعة مربعة من كعكة شوكلاتة صغيرة مزينة بزهرة بيضاء كاريكاترية الشكل و"ميني ماوس" بفيونكتها المنقّطة وابتسامتها العريضة، وقد وضعت على الطاولة في مواجهة السرير الذي رُتّبت شراشفه ومخداته الكثيرة بعناية فائقة. فضّت الظرف على عجالة، كان يحمل تهنئة من إدارة الفندق مطبوعةً بخط أنيق. 

رمت الرسالة في سلة المهملات، ومضتْ مسرعةً إلى الحمام بعد أن خلعت الحذاء ذا الكعب العالي في الممرّ الضيق، ونضت عنها القميص الداكن الذي كانت ترتديه. وضعتْ قدميها في نعلي البيت الدافئين متفاديةً برودة الرخام، وشرعت في ملء البانيو بماءٍ ساخن. 

أغرقت جسدها في الماء وقد زال عنها التعب اللذيذ، وأوساخ الشارع وتلوثه، وأدخنة السيارات القديمة والمواصلات المتهالكة. تحرّك أصابعها المصبوغة أطرافهما بأحمرٍ قان في دوائر على السطح الراكد، وهي تفكر بلحظاتهما معًا منذ الصباح الباكر في المقهى الذي قُطعت عنه الكهرباء وحتّى عشائهما الأخير تحت أشجار حديقة المطعم الوارفة. تبتسم، كانت أوقاتًا جميلة، لكنّها تود لو استطاعا قضاء الليلة معًا. تنفض الفكرة من رأسها كما تنفضُ عن شعرها القصير قطرات الماء. 

تفكر بكعكة ميني ماوس التي تنتظرها خارج الحمام. تبتسم لسخرية الموقف، فالفندق لا يتوانى عن محاولة إرضائها بلفتة كريمة كتلك، لكنه مع ذلك لن يسمح لها بالاحتفال مع شريكٍ آخر طالما هو ليس من نزلاء المكان. 

تفتح سدادة الماء بسرعة، تراقب الرغوة وهي تنسحب في دوامات خاطفة تتلاشى سريعًا. تذكر نفسها: اليوم عيد ميلادها ولا شيء سيفسد صفوها.


المساهمون