ينتمي الأخوان بشير إلى عائلة موسيقية موصلية، جعلت من بيتها وكأنه معهد للموسيقى. كان المنزل ملاذاً لكل محب للموسيقى؛ فالوالد يعد من أمهر صانعي الأعواد، وعازفاً أيضا على آلة العود. قرر الشريف محيي الدين حيدر (وهو أمير من عرب الحجاز كان يسكن تركيا)، أن يستقر في بغداد بعدما أمِن لمشروعه الموسيقي والغنائي (الموسيغنائي)؛ ليس فقط عبر إنشاء معهد للفنون الجميلة، بل كذلك لنشر طريقته الجديدة في العزف على آلة العود التي عرفت في ما بعد بطريقة الارتجال.
تعلّم التلميذان النبيهان، جميل ومنير، هذه الطريقة بعدما سبرا أغوارها بالمران والتدريب مع أستاذهما القادم من تركيا، بلد الموسيقى الرائعة. كان على الشاب جميل بشير (1921 - 1977)، الذي تحل ذكرى رحيله غدًا، أن يسير على خطى أستاذه في تطوير أداءات العزف الجديدة التي نافست، في ما بعد، الطريقة المصرية في العزف على العود التي يمكن أن نسميها بالطريقة التطريبية.
كان على جميل بشير كذلك، من أجل أن يطور مهارات الأصابع في سعيها إلى الانتقال بخفة على زند العود، أن يتعلم العزف على آلة التشيلو؛ فتعلمها في مدة قصيرة، وتهيأ له نقل خاصية انتقال الأصابع على وِسْع مساحة زند التشيلّو، وتلك مهمة شاقّة، سار عليها كل من أبدع بعده في العزف بالطريقة الجديدة، الارتجال.
ولأن جميل بشير يعرف جيداً أنه فنان، عهدتْ له الحياة مهمة ليست سهلة؛ فشد رحاله وغاص في تراث العراق الموسيغنائي الأصيل، والذي عديده لا يحصى. هكذا، تعلم قراءة المقام العراقي، كذلك ألمّ بفن أطوار غناء الجنوب بفراته الأوسط. وهذا يتطلب منه تعلم العزف على آلة الكمان؛ فلم يكتف بتعلم العزف على آلتي العود والتشيلّو، بل انتقل لتعلم العزف على آلة الكمان على يد مدرسه في المعهد في ذلك الحين الأستاذ ساندو البو.
فن الارتجال
تعتمد طريقة الارتجال على نواح عدة، أهمّها: العزف بالريشة المقلوبة وتطوّراتها؛ أي الضرب على الوتر ذهاباً وإياباً بأشكال عدة. ورفع تسوية أوتار العود (الدوزان) إلى درجات أعلى من درجة تسويتها في العود التقليدي ذي الخمسة أوتار. إلى جانب جعل أوتار العود ستة بدل خمسة في العود التقليدي. يستدعي هذا الأمر أن يكون للعازف كونسيرت خاص فقط لآلة العود، يستمر فيه لما يزيد عن ساعة في تقاسيم على سلم مختار، والغوص في بستان الأنغام والأطوار، على أن يجمعها المؤدّي في حلة عزفية وكأنها موضوعة مسبقاً، وهي ليست كذلك، إنما هي ارتجالية ومن بنات أفكار العازف. وهذا ما وضع قوانينه وأصوله الموسيقار جميل بشير؛ إذ هو صاحب السبق فيه، ولأخيه منير بشير من بعده.
مؤلفات جميل بشير
وضع جميل بشير مؤلّفات عديدة على آلة العود، وكثير منها أصبح تمريناً مهماً يتعلّم من خلاله المؤدّون والعازفون طريقة الارتجال العزفية. من أبرز مؤلّفاته: بشرف سيكاه، وسماعي صبا، وكابريس، و"أندلس"، و"قيثارتي"، و"همسات"، و"لونغا فراق"، و"ملاعب النغم"، و"تأمل وحيرة"، و"رقصة جمانا"، و"أيام صعبة"، و"أيام زمان"، و"صدفة"، و"شارع الخليج".
حين نستمع إلى تلك المؤلفات، نجد فيها فهماً عميقاً لإعادة إنتاج التراث الموسيغنائي العراقي، في حلة جديدة، مع المحافظة على كل الخطوط العامة لنمطية المنجز التراثي القديم.
مثلاً، في مقطوعة "أيام زمان"، نُلاحظ أن جميع الجمل الموسيقية التي وضعها في هذا العمل، هي جمل استنبطها من أغاني التراث العراقي، مُشركاً أكثر من آلة وترية ونافخة، مستعيناً بآلة الرق. لكنه، في الوقت نفسه، أبقى على العود كآلة صولو. هذا الضرب من التأليف، يُعد أول مبادرة لإنشاء مصطلح كونشيرتو العود، ولم يسبقه بهذا الأمر أحد قبله؛ أي كمؤلف متكامل. في "أيام زمان" كذلك، نلاحظ هذا التحاور الهادئ والبليغ بين الآلات النفخية والوترية، وبأكثر من جملة موسيقية، عبر انسجام وتجانُس بديعين.
فن التقاسيم
لجميل بشير في فن التقاسيم أعمال بارزة، تأثّر واستلهم منها كثيرون، مثل تقاسيم البيات التي صاحبت مطربين كثيرين، مثل القبنجي، وزهور حسين، وناظم الغزالي، وغيرهم. هنا، لا بد أن نذكّر بأن كل العازفين المشهورين على آلة الكمان، هم من ذاكري فضل جميل بشير، أبرزهم الفنان فالح حسن.
كتاب من جزأين
حرص بشير على تعليم تلاميذه ما تعلّمه هو في رحلته الطويلة في دراسة الموسيقى، وقد أصبح مدرساً لآلتي العود والكمان في المعهد نفسه الذي تعلّم فيه، وكذلك مديراً لقسم الموسيقى هناك. في عام 1961، نُشر كتابه المهم: "تعلُّم العود". عمل يتطرّق إلى طريقة العزف على آلة العود على النوتة الموسيقية، التي كان هو حجة فيها؛ حيث يلجأ الموسيقيون للكتاب من تدوين مؤلفاتهم الموسيغنائية. ولا يزال هذا الكتاب هو المنهج في معهد الفنون الجميلة لتعليم العود حتى أيامنا هذه. وجد جميل بشير حاجة ماسة لوضع هذا الكتاب الذي جاء في جزأين، موزّعاً على ست مراحل دراسية.
رحل العالم الموسيغنائي جميل بشير في الرابع والعشرين من الشهر سبتمبر/ أيلول لعام 1977 عن 56 عاماً فقط. رحل وفي جعبته الكثير، ليترك فراغاً كبيراً في المشهد الموسيغنائي العربي، ليس من السهولة سدّه.