14 نوفمبر 2024
جميلة بوحيرد.. أيقونة مثيرة للجدل
أطلّت جميلة بوحيرد على الساحة الجزائرية. أضاء طلّتها وهجُ المسيرات الشعبية الرافضة تجديد حكم عبدالعزيز بوتفليقة للمرة الخامسة، فأخذ رواد الرأي يتغزّلون بالأيقونة، بطلة حرب تحرير الجزائر من الاستعمار الفرنسي؛ يتذكّرون أغنية أنشدتها السيدة فيروز، أو فيلم أخرجه يوسف شاهين، والاثنان يمجِّدان ببطولتها ووطنيتها ونقائها، في نهاية خمسينات القرن الماضي.
ولكن سرعان ما تنبّه المحتفون، أو نُبّهوا: إلى أن جميلة بوحيرد تقيم علاقاتٍ ممتازة مع النظام السوري وحلفائه، ففي خضمّ حملته على مثقفين معارضين، وإلقائه عددا منهم في السجون، بتهم التعبير عن رأيهم.. كان بشار الأسد يقلّد الأيقونة الجزائرية وسام الاستحقاق السوري من الدرجة الممتازة؛ ولا يحرم نفسَه من الإشادة بـ"نضالها ضد الاستعمار الفرنسي ودعمها المقاومة". فاعتزت بوحيرد "بهذا التكريم وأبدت تقديرها العالي لسورية بقيادة الأسد، لوقوفها الدائم إلى جانب المقاومة والقضايا العربية العادلة" (2009). وبعد ذلك بكم سنة، خلال معركةٍ أسدية أخرى أشدّ دموية ضد الشعب السوري، كانت بوحيرد تزور حسن نصر الله، أمين عام حزب الله وشريك الأسد في معركته، ونُقل عن الحديث الذي أجرته مع نصر الله أنه
كان يدور حول التواصل "بين مقاومةٍ تاريخية انتصرت ومقاومةٍ حالية انتصرت" (2013).
المعلومتان مرّتا وقتها بأقل ما يمكن من الضجّة. وها هما اليوم تعودان إلى السطح، وتكشفان عن شخصيةٍ قد تكون التجسيد الأدق لحالةٍ نعرفها جيدا في المشرق العربي: حالة الذين وقف عندهم الوقت في أوج القتال ضد الاستعمار الأجنبي، ولم يعودوا ينظرون إلى غير تلك اللحظة. جميلة بوحيرد بقيت على خط واحد، محاربة الاستعمار. الأولوية المطلقة التي منحتها لهذا الخط لم تسمح لها بالخروج عن أسباب ترقّيها إلى مرتبة الأيقونة. النظام كان يرفعها، في بدايته، لتضفي عليه شرعيةً مطلقةً، كما فعل تماماً، من بعده، بشار الأسد وحسن نصر الله، فبين اليوم الذي ارتسمت فيه معالمها الأيقونية، في لحظات البراءة والعفوية، وبين الآن، مرّت مياهٌ كثيرة في نهر الحياة العربية. من دون أي استثناء، صعدت إلى الحكم أجهزةٌ تلعب على حبل "البرّاني" و"الجوّاني": البرّاني هو الاستعمار الذي حرَّرناكم منه، والجوّاني هو نحن أبناؤكم الذين نحكمكم. والبرّاني جلب المأساة والفقر، هو العدو المطلق، فيما الجوّاني، لا يمسّ، هو المقدس، هو الذي لا يأتي من طرفه أي باطل. رست المعادلة، مدعومةً بالحماسة الجماهيرية، المبتهجة من "الانتصار على الاستعمار"، وشيئاً فشيئاً، تحوّل الحكم الذي يتغنّى بجوانيته إلى حكم برّاني، لا يختلف عن البرّاني المعتمَد، أي الاستعمار الغربي، إلا بلون البشرة والعينَين، وبتخلّفه وقلة ذكائه وخياله.
لماذا بقيت جميلة بوحيرد على منوالها الأول، فمرّت من أمامها الاستعمارات الداخلية، ولم تلتقطها، هي البطلة الاستقلالية التي هزأت من محكمةٍ تصدر بحقها عقوبة بالإعدام؟ ربما لأنها أيقونة. السبب الذي صنع مجدها لا يمكن أن يجد لنفسه نظيراً نقيضاً، وإلا انتفت أسباب
الأيقونة. وقد يكون هذا من حقّها، من أساس كينونتها أيقونة. الجوّاني عندها، كما البرّاني، لم تتغير جغرافيتهما. الجوّاني والبرّاني عندها مثل كتلتي دفء وثلج، يخرّب أحدهما الآخر. وفي إصرارها على هذه الحدود، تتصرّف جميلة بوحيرد كأيقونة مجرَّبة. كصورةٍ يجب أن تبقى على ملامحها الأولى؛ تلك التي صنعت مجدها. والصورة شيء، أما هي فشيء آخر. وإذا نزلت اليوم إلى الشارع مع مئات الآلاف من الجزائريين، احتجاجاً على نظامٍ استغل أيقونيّتها حتى الثمالة، فلأن البرّاني بدأ يشتغل فيها؛ انفصلت هي عن صورتها، ولو لبعض الوقت الحماسي. ولكنها، في الآن عينه، نقَضت هذه الصورة: إذ كيف يصحّ أن تعارض رئيساً لم يطلق رصاصه ولا براميله ولا صواريخه على المتظاهرين المطالبين بتنحّيه، فيما ترمي بالورود نظاماً آخر ارتكب المعاصي ضد شعبه الذي خرج هو أيضاً للمطالبة بتنحّي رئيسه؟... فهل انكشف بوتفليقة بمكانته "البرّانية"، وبقي الأسد مستوراً، "جوّانياً"؟
تطرح جميلة بوحيرد علينا معنى الأيقونات ودورها. في الأساس، الأيقونة عمل إيمانيٌّ صرف. من يرسمها ومن يتأمل بها، كمن يقوم بفعل صلاة. عُرف بها المسيحيون الأوائل، قبل أن تضمّها الكنيسة الارثوذكسية وحدها إلى شعائرها. الذي يصلّي أمام أيقونةٍ رسَمها مؤمن هو كمن يتوسّطها بينه وبين الله. الأيقونات المعاصرة أنزلت الأيقونة الأرثوذكسية من العرش الديني: إذ يمكن أن تتجسّد بصورة فوتوغرافية، "لقطة" ذات رمزية مكثفة، توفّق بها مصوّر بارع. يمكن أن يكون موضوع الأيقونة رجلا أو امرأة عاديَين، قاما بأشياء استثنائية، ليست بالضرورة دينية؛ ويجب أن يكون لأحدهما صورة. طليعة الأيقونات المعاصرة كانت شخصياتٍ سياسية: عبد الناصر، غيفارا، غاندي، ستالين.. ثم تدمقْرطت (ديمقراطية) الأيقونات، وتخصّصت: أيقونات الموضة، الغناء، الرياضة، الطبخ، القضايا. ولكل أيقونةٍ أتباعٌ يعبدونها. والأخطر من بينها هي التي تحولت إلى مادة شرْعنةٍ سياسية، تخدم أنظمةً تريد لنا التجمّد عند لحظات "انتصارها" ضد الاستعمار"؛ فيما هي، أي الأنظمة، تحوّلت، وبغفلة من الزمن، إلى نوعٍ جديد من الاستعمار. جميلة بوحيرد واحدةٌ منها، لا تقلّ نفعاً عن أيقونة فلسطين؛ فالاثنتان، الشخصية والقضية، تُرفع بوجه كل من سمّى هذا الاستعمار، وأشار إليه بالبَنان. وهذه أسهل طريقةٍ لحرمان العقل من ملَكَاته.
المعلومتان مرّتا وقتها بأقل ما يمكن من الضجّة. وها هما اليوم تعودان إلى السطح، وتكشفان عن شخصيةٍ قد تكون التجسيد الأدق لحالةٍ نعرفها جيدا في المشرق العربي: حالة الذين وقف عندهم الوقت في أوج القتال ضد الاستعمار الأجنبي، ولم يعودوا ينظرون إلى غير تلك اللحظة. جميلة بوحيرد بقيت على خط واحد، محاربة الاستعمار. الأولوية المطلقة التي منحتها لهذا الخط لم تسمح لها بالخروج عن أسباب ترقّيها إلى مرتبة الأيقونة. النظام كان يرفعها، في بدايته، لتضفي عليه شرعيةً مطلقةً، كما فعل تماماً، من بعده، بشار الأسد وحسن نصر الله، فبين اليوم الذي ارتسمت فيه معالمها الأيقونية، في لحظات البراءة والعفوية، وبين الآن، مرّت مياهٌ كثيرة في نهر الحياة العربية. من دون أي استثناء، صعدت إلى الحكم أجهزةٌ تلعب على حبل "البرّاني" و"الجوّاني": البرّاني هو الاستعمار الذي حرَّرناكم منه، والجوّاني هو نحن أبناؤكم الذين نحكمكم. والبرّاني جلب المأساة والفقر، هو العدو المطلق، فيما الجوّاني، لا يمسّ، هو المقدس، هو الذي لا يأتي من طرفه أي باطل. رست المعادلة، مدعومةً بالحماسة الجماهيرية، المبتهجة من "الانتصار على الاستعمار"، وشيئاً فشيئاً، تحوّل الحكم الذي يتغنّى بجوانيته إلى حكم برّاني، لا يختلف عن البرّاني المعتمَد، أي الاستعمار الغربي، إلا بلون البشرة والعينَين، وبتخلّفه وقلة ذكائه وخياله.
لماذا بقيت جميلة بوحيرد على منوالها الأول، فمرّت من أمامها الاستعمارات الداخلية، ولم تلتقطها، هي البطلة الاستقلالية التي هزأت من محكمةٍ تصدر بحقها عقوبة بالإعدام؟ ربما لأنها أيقونة. السبب الذي صنع مجدها لا يمكن أن يجد لنفسه نظيراً نقيضاً، وإلا انتفت أسباب
تطرح جميلة بوحيرد علينا معنى الأيقونات ودورها. في الأساس، الأيقونة عمل إيمانيٌّ صرف. من يرسمها ومن يتأمل بها، كمن يقوم بفعل صلاة. عُرف بها المسيحيون الأوائل، قبل أن تضمّها الكنيسة الارثوذكسية وحدها إلى شعائرها. الذي يصلّي أمام أيقونةٍ رسَمها مؤمن هو كمن يتوسّطها بينه وبين الله. الأيقونات المعاصرة أنزلت الأيقونة الأرثوذكسية من العرش الديني: إذ يمكن أن تتجسّد بصورة فوتوغرافية، "لقطة" ذات رمزية مكثفة، توفّق بها مصوّر بارع. يمكن أن يكون موضوع الأيقونة رجلا أو امرأة عاديَين، قاما بأشياء استثنائية، ليست بالضرورة دينية؛ ويجب أن يكون لأحدهما صورة. طليعة الأيقونات المعاصرة كانت شخصياتٍ سياسية: عبد الناصر، غيفارا، غاندي، ستالين.. ثم تدمقْرطت (ديمقراطية) الأيقونات، وتخصّصت: أيقونات الموضة، الغناء، الرياضة، الطبخ، القضايا. ولكل أيقونةٍ أتباعٌ يعبدونها. والأخطر من بينها هي التي تحولت إلى مادة شرْعنةٍ سياسية، تخدم أنظمةً تريد لنا التجمّد عند لحظات "انتصارها" ضد الاستعمار"؛ فيما هي، أي الأنظمة، تحوّلت، وبغفلة من الزمن، إلى نوعٍ جديد من الاستعمار. جميلة بوحيرد واحدةٌ منها، لا تقلّ نفعاً عن أيقونة فلسطين؛ فالاثنتان، الشخصية والقضية، تُرفع بوجه كل من سمّى هذا الاستعمار، وأشار إليه بالبَنان. وهذه أسهل طريقةٍ لحرمان العقل من ملَكَاته.