جمهورية السماء

26 نوفمبر 2014
كان جيلا يؤمن بالمجتمع ويكفر بالدولة (Getty)
+ الخط -

مسكونون بالغضب، منذ مائة عام، أو يزيد، ونحن في مصر جزء من احتجاج لا يتوق. وغضب لا يهدأ، المناضل والمستعمر، العامل والمستغل، كل شيء يوقظ بداخلنا، الغضب والاحتجاج، وجيشان من التمرد الظامئ بعضه نحرا كالدوري، أو منحورا كزينب.

أما زينب المهدي فكانت غاضبة، كغضب جيلها، الذي انقدح يوم 25 يناير، كانت سريعة الإيمان، بائسة التململ، تبني على ضفاف النيل آمالا تحطمها حركة عشواء من عربة من أحد بائعي البطاطا، أو من بائعي السياسة، قصيرة مركزة، منيرة مبهرة، لم تترك واديا من أودية الثورة، إلا وحطت بجسدها الفراشي المكتنز، وخلفها حقيبتها أو عدة المناضل، معها الكان والخل، والفرشاة والألوان، وربما صاعق لحماية أنثويتها التي تنازع طفولتها.

أحبت النزول إلى الشارع ليلا بعد جدل مضن مع أسرتها، غير مكترثة، يد تمسك بالطوبة لإرجاع صفوف السواد، وأخرى تنقر على الهاتف اللوحي، تستحث خطى السماء، وعزائم الراكنين في بيوتهم. تنبئ عن الإصابة أو الشهادة، محذرة أن الثورة في خطر، وتغني "إحنا الثورة وإحنا الأمل".. في نشوة مستسلمة لعذابات التمرد.

خرجت من يقين الإخوان وانتمت إلى التيار المصري، أحبت هبة رؤوف، وقاتلت وراء أبو الفتوح، ودرست في الأزهر، وخلعت الحجاب، دخلت كل هذا العالم كطفلة وخرجت منه كطفلة، مدلاة فوق أرجوحة المشنقة، التي اعتلتها بقوة لا يقوى عليها أشد الرجال.

كانت تطل من شرفة حزب التيار المصري، الذي انشق مؤسسوه عن الإخوان، والمشرفة على جمعية الشباب المسلمين في شارع رمسيس، حيث قتل أمامها حسن البنا في الأربعينيات، تحدثها نفسها إذا كان هناك قتل حسن البنا، فهنا في تلك الشقة المتواضعة يجب ألا نمنحه حياة أخرى.

كنت دائما أسأل عن تلك البنت الشقية التي لا تنام. أدرك تماما أنها لا تعرف الحياة كما عرفها الكبار، لكنها عانقتها بقوة، واستكشفت بعقلها النرجسي الغض أنها جزء من حركة الشباب الاستكشافي، لا التلقيني، الشباب الذي غنى في ساقية الصاوي، وجلس في صالون ابن رشد في مركز القاهرة، واستمع لفرقتي اسكندريلا ووسط البلد، وحمل حقائب المساعدات لرسالة، ودون على المقاهي وسط النراجيل، وتأثر بالوعظ البروتستانتي الإسلامي لعمرو خالد في مسجد الحصري، ولسامح موريس في كنيسة قصر الدبارة منهج "الحياة ألذ مع الله".

كان جيلا يؤمن بالمجتمع ويكفر بالدولة، يثق بنفسه ويزدري النخبة، الجيل الذي أحال الـ "سوشيال ميديا" إلى أداة تعارف بين الغرباء، لا أداة تعمق التوحد والإدمان والتفرد كما يشكو العالم، فكانت تنشأ الـ "جروبات" على الإنترنت ثم تنزل إلى الأرض، وكان النظام الأخرق يظن أنه بقطع كابل الشبكة سينتهي كل شيء، وسيتلاشى العالم الانفرادي، ففوجئ به يحاصره في قصره في الاتحادية.

وبعد 30 يونيو/حزيران وبعد سلسلة من المجازر، كانت زينب مثلها مثل كثيرين، لا تفرق بين دم ودم، وفي حومة اليأس المحيط، كان لا يزال لديها رجاء، أفرغت كل ما انطوت عليه نفسها من نبل في ملف المعتقلات والمنتهكات، ربما تلتمس العزاء، وكانت لا تدري أنها قررت حينها أن تدخل النفق وثقب اليأس، الثورة أو فتاتها الجميلة، باتت قصة من خيال، فهوى من حبل مشنقة. إنه واقع ثورة أضحت ردة كبرى سحقت البسالة.. لم يقو عقلها الطفولي على الحرب الأهلية الأيدولوجية، وحجزها حلمها الغض، عن كابوس الواقع المرير.

لم يعد أمامها إلا أخيلة الظلام، وأن تسطر أوراقا وجداول وملفات تلو ملفات، خانة تسجل فيها: هنا معتقلة، وهنا مغتصبة، وهنا منتهكة ووو.. وأخيرا هنا منتحرة.. وكانت زينب، أو ثورة اسمها زينب.

تشير الأرقام إلى أن ما بين 11 و14 ألف شاب وفتاة ينتمون إلى بلدان عربية، يحاولون الانتحار كل عام.. وذلك بحسب كتاب "شهقة اليائسين" للباحث ياسر ثابت، الذي نقل عددا من الإحصائيات التي توضح أن حالات الانتحار في مصر زادت بنسبة 12% عام 2011 عن العام الذي سبقه، وإن نحو 18 ألف حالة انتحار وصلت إلى مركز السموم خلال عام 2011، أغلبهم من الرجال. وتشهد مصر سنويا نحو ثلاثة آلاف محاولة انتحار لمن هم أقل من 40 عاما. وفي عام 2009 وحده شهد محاولات للانتحار في مصر بلغت 104 آلاف حالة، تمكن خمسة آلاف منهم من التخلص من حياتهم. وتقول الاحصائيات الصادرة عن الجهاز المركزي للتعبئة العامة والإحصاء، إن جريمة الانتحار في مصر أصبحت ظاهرة خطيرة تتصاعد يوما بعد يوم.

لكن هناك صيغة أخرى للانتحار ليست مرتدة على النفس، موجهة ضد الآخر، أو الخصم، إنهم المنضوون تحت راية الجماعات الدينية المقاتلة، أخبرني صديق سوري، أن قطاعا من الشباب الثوري السوري انقطع تفاؤلهم من تأسيس "جمهورية الأرض" الجديدة، فأضحوا يقاتلون من أجل جمهورية السماء، التي ليس بينهم وبينها إلا أن يفجر أحدهم نفسه في جمع مدني أو عسكري، فيتلاشى الجسد ليسكن حواصل طيور خضر تأوي لظل عرش الرحمن، كما تقول الروايات التي آمن بها عن يقين عملي ضابط الشرطة المستقيل أحمد الدوري، السياسي الحزبي، والناشط الثوري الذي آمن بقدرة "صندوق الانتخابات" في التغيير، وتيبن له شؤم تلك الرؤية فتحول، إلى "صندوق الذخيرة، وأمسى انتحاريا في معركة مذهبية في العراق.. فسبحان الله حين تمسون وحين تصبحون.

كانت الثورة المصرية مؤذنا بخراب الطغيان، كل التنظيمات الجهادية قديمة وحديثة، انخرطت في الجدل السياسي، تركت الزاويا والتحمت بالمجال العام، انخرطوا في غمار العمل المدني السياسي بمسوحهم الدينية التقوية، وحقق بعضهم نجاحا، وإن ظن بعضهم أن قبة البرلمان كقبة المئذنة تطلق الأذان.

انخرط الدوري في الجدل السياسي والمدني والثقافي العام، يحمل ملف هيكلة الشرطة على عاتقه. كان فاعلا ميدانيا سياسيا قريبا من الإسلاميين، حيث اكتظت القاهرة ومحافظتها بالائتلافات الشبابية الثائرة، وتحولت مصر إلى مقبرة كبرى تتوارى فيها التنظيمات الجهادية المقاتلة، وكانت الإشكالية الكبرى لدى تلك الجماعات أن أوعية الدعوة تفرغ لحساب أودية السياسة والحزبية.

خرج من جهاز الشرطة بحسب ما كتب على صفحته الـ "فيسبوكية" لإزدواجية المعايير وانعدام العدل، واعتراضا على تزوير الانتخابات. كان يستضاف في القنوات المصرية كناشط يحمل ملف إصلاح الشرطة، وفي برنامجه الانتخابي في دائرة المعادي، كتب برنامجا تفصيليا لذلك.

أيد ترشيح مرسي في جولة الإعادة، كما رفض أن يحل البرلمان المنتخب بقرار قضائي، ثم رفض عزل مرسي، وكان معتصما في رابعة، وطوى الاعتصام في أنهار من الدم.

الدروي مختلف عن زينب، يقينه الديني يمنعه من الانتحار، لكن لا مانع من نحر الخصم. وبعض الحركات الدينية خرجت من ميدان/مجزرة رابعة أقل اعتزازا بالاعتدال، ولم يكن أمامها إلا خيارين.. إما أن تنعزل عن الواقع فتتطرف، أو تتجه إلى مواجهة الواقع فيظهر العنف. زينب والدوري جمعت بينهما سرابية الجمهورية الجديدة، فاتخذا طريقهما إلى جمهورية السماء كل باجتهاده.

* يرجى ملاحظة أن الأرقام الواردة مستقاة من كتاب: "شهقة اليائسين.. تاريخ الانتحار في العالم العربي" لياسر ثابت

*مصر

المساهمون