جلال البحيري: قصيدة تكشف هشاشة الأجهزة

04 اغسطس 2018
(مقعد جلال البحيري فارغاً، تصوير: يوهانا سيلانبا)
+ الخط -

بعد ستّة أشهر من اعتقاله، قضت "المحكمة العسكرية" في القاهرة، الثلاثاء الماضي، بحبس الشاعر جلال البحيري ثلاث سنوات ودفع غرامة مقدارها عشرة آلاف جنيه، وذلك لاتهامه بـ "نشر وإذاعة أخبار كاذبة وإهانة المؤسّسة العسكرية"، حسب مختار منير، محامي دفاعه.

يأتي الحكم بعد أيّام على صدور بيانٍ لناشطين في مجال حقوق الإنسان استنكر ما تعرّض إليه البحيري، الذي اعتُقل في الثالث من آذار/ مارس الماضي، وظلّ مختفياً طيلة أسبوع، قبل أن يمثُل أمام السلطات المعنية، وقد بدت عليه آثار التعذيب والضرب، ويشير البيان إلى أن ذلك يحدث "في ظلّ فرض قيود على حرية التعبير الفني وغيره من الأشكال، والحق في المشاركة في الحياة الثقافية في مصر".

ما يُثير الانتباه هو نسب عددٍ من الاتهامات (تكاد تبدو جاهزة) إلى أيّ معارض للنظام، حيث أَسندت نيابة أمن الدولة إلى البحيري "جرائم الانضمام إلى جماعة أُنشئت على خلاف أحكام القانون، الغرض منها الدعوة إلى تعطيل أحكام الدستور والقوانين ومنع مؤسّسات الدولة والسلطات العامة من ممارسة أعمالها، ونشر أخبار كاذبة عن الأوضاع السياسية والاقتصادية في البلاد، قصد تكدير السلم العام في إطار أهداف جماعة الإخوان الإرهابية، والترويج لأغراض الجماعة التي تستهدف زعزعة الثقة في الدولة المصرية ومؤسّساتها".

تكمن مفارقةٌ في ادّعاء انتماء البحيري إلى إحدى جماعات الإسلام السياسي، في الوقت نفسه الذي تزعم فيه النيابة بأنه "لم يقف عند تحريف حديث النبي أو النيل من المؤسّسة العسكرية، بل زاد التطاول للنيل من شخص النبي"، في إشارة إلى إحدى قصائد مجموعته الشعرية "خير نسوان الأرض" التي يُحاكَم على خلفية إصدارها.

أمّا المفارقة الثانية، فتتمثّل في أن التهمة تعني "هشاشة" مؤسّسات الدولة والسلطات العامة التي "تُمنَع" من ممارسة أعمالها بسبب قصيدة لشاعر، واعتبارها "أخباراً كاذبة" تتقصّد تكدير السلم العام، وترويجاً لأغراض جماعة "إرهابية" تستهدف زعزعة الثقة في الدولة المصرية".

ويبلغ التحريض منتهاه لدى وسائل الإعلام المعروفة بتأييدها للسلطة؛ فتقول إنها "رصدت، خلال زيارة السيسي الميدانية لتدشين سبع مدن جديدة، علامات غضب على محيّاه"، مفسّرة ذلك بـ "انزعاج الرئيس من فيلم ومسرحية وديوان شعر".

وحتى تكتمل فصول المسرحية "الهزلية"، يُصرّح السيسي يومها أن "كل إساءة للقوّات المسلّحة أو قوّات الأمن تندرج تحت بند الخيانة العظمى، وأن هناك فرقاً كبيراً بين الإساءة وحرية التعبير والرأي"، بل دعا إعلامه إلى التصدّي لـ "محاولات الإساءة وانتقاد جهوده في حفظ الأمن القومي لمصر"؛ أي أنه يطالبهم بصريح العبارة بمزيد من التحريض وبث خطاب الكراهية والعنف ضدّ المعارضين، والذي يصل حدّ الدعوة إلى التخلّص منهم.

الخيانة العظمى بحسب وصف "الرئيس"، تمثّلت في إعداد فيلم وثائقي بعنوان "سالب 1095" من إنتاج سلمى علاء الدين، القيادية في "حركة 6 أبريل"، والتي تُحاكَم مع فريق عملها بتهمة الانتماء إلى المعارضة ونشر أخبار كاذبة، ومسرحية "سليمان خاطر" التي مُنعت من العرض ويواجه مؤلّفها وليد عاطف ومخرجها أحمد الجارحي تهم إهانة الجيش، وقد تزامن ذلك خلال الأسبوع نفسه الذي اعتُقل فيه جلال البحيري.

لا يسلم المدافعون عن الناشطين والكتّاب والفنانين المعارضين من القمع، كما صرّح مختار منير محامي البحيري في حديث سابق له عام 2015، حين أكّد "تعرّض العديد من المحامين في هذه القضايا لضغوط وزارة الداخلية والنظام"، خصوصاً بعد تكتّل مجموعة منهم على خلفية مقتل زميلهم كريم حمدي قبل ثلاث سنوات، جرّاء تعذيبه أثناء احتجازه داخل قسم شرطة المطرية في القاهرة.

في المقابل، لا يمكن إغفال حجم الأزمة التي تعيشها المؤسّسة الثقافية الرسمية بعد استعادة الدولة العميقة السيطرة عليها بشكل مباشر منذ تموز/ يوليو 2013، وتسخير جميع كوادرها لـ "مواجهة الإرهاب"، وتلميع صورة الزعيم الأوحد الذي لا يقبل منافسين له. هكذا، تحوّلت إلى مجرّد جهاز تعبئة وتحشيد لا فوارق إبداعية وحتى شخصية بين جميع الذين يتناوبون على تمثيله.

بناء على ذلك، تتعامل معها أجهزة الدولة باستخفاف، حين تورد نياية أمن الدولة في سياق اتهاماتها أن "البحيري دأب بشكل مستمر على ترويج الشائعات والأفكار المسمومة ضد الجيش المصري بحجة حرية الرأي والتفكير من خلال إنكار مجهودات القوات المسلحة ومحرفاً لأحاديث النبي عن فضل الجندي المصري، وذلك في غيبة هيئة الكتاب، وكذلك وزارة الثقافة، اللتين سمحتا بتداوله في معرض القاهرة للكتاب وعمل ندوة للكاتب المشكو في حقّه".

نطقت المحكمة بقرارها المجحِف، وكان البحيري قد ردّ عليه برسالة من "سجن طرّة" قبل أن يصدر بنحو شهر ونصف، يقول فيها: "وفي قلب هذا الليل/ ما أملكش غير إني ابتسم/ وآخد بلادي في حضني وأحكيلها/ عن سيرة كل المحبوسين .. برة/ خارج حدود السجن/ وقبضة السجان/ عن حاجة الإنسان.. إلى الإنسان/ عن حلم كان جايز/ وبالإمكان/ عن شيلة كانت ممكنة/ والكل شايلينها".


تنصّل الناشر
تنصّلت "دار ضاد" ناشر مجموعة "خير نسوان الأرض" من مسؤوليتها في بيان أعلنت فيه فسخ تعاقدها مع البحيري مؤكّدة رفضها "للمحتوى الساذج لهذا الكتاب جملةً وتفصيلاً"، معتبرة "أن المسألة برمتها كانت مجرّد تعاقد لم يرق لطباعة أي نسخة من هذا الديوان"، رغم أنها وزّعت العمل في المكتبات وفي الدورة الأخيرة من "معرض القاهرة للكتاب"، كما أصدرت مجموعتَين سابقتين للشاعر هما: "سجن بالألوان" و"حلق حوش".

المساهمون