جغرافيا سياسية بخطوط أيديولوجية

14 ابريل 2014

روسيا تعود إلى التأثير الدولي وإيران قوة إقليمية

+ الخط -

ثمة سؤالٌ لطالما طُرح بقوةٍ، على طول مسار الحدث السوري: هل فقد الشرق الأوسط أهميته الاستراتيجية؟ بالطبع، يتضمن السؤال، وبشكل استيعابي، إهمال القوى الفاعلة في الأزمة السورية، وتركها تتفاعل، وسط مدىً جغرافي، ينطوي على ما كان يسمى طيلة القرن العشرين "مصالح عالمية حيوية"، ترتبط ارتباطاً وثيقاً باقتصاد الغرب، (نفط الخليج)، وبحضارته (إسرائيل)، كما أَن الحدث، بحد ذاته، يُلامس القيم الغربية المرفوعة "الديمقراطية وحقوق الإنسان".

أَعاد الحدث الأوكراني طرح السؤال بقوة، ذلك أَن نمط استجابة الغرب، ذاته، تجاه الحالة الأوكرانية، انطوى على إعادة صياغةٍ جديدةٍ للسؤال المطروح، هي ما إذا كان ثمة مستويات للأهمية الجغرافية، وما إذا كان للأمر علاقة بامتزاج جملةٍ من المعطيات العرقية والثقافية، في إِطار المكون الاستراتيجي، ومفاضلتها وفق هذا الأساس المعياري؟ وتالياً، مدى الانحياز القيمي الذي يشكله مثل هذا التقييم. فهل ثمة جغرافيا أكثر أهمية، لمجرد أَن سكانها ينتمون إلى عرق وثقافة مختلفين؟ وهل يصحُّ أن تبني القوى الكبرى استجاباتها، ومواقفها، تبعاً لذلك؟

ليس العالم عادلا، هذه من بديهيات السياسة الدولية، إِضافة إِلى أن أوكرانيا تشكل مدىً حيوياً مفتوحاً على القلبين، الأوروبي والروسي، وتمثل، في الحسابات الاستراتيجية، بيضة قبان. وتُشابه أهمية سهوب أوراسيا بالقبض على ناصية العالم، وإِن كانت بمعطياتٍ راهنية، ذات علاقةٍ باستعادة روسيا البوتينية مجدها، أَو أقله لجهة تثمير أَوراق اعتمادها دولةً قطباً، في مواجهة اكتساح الاتحاد الأوروبي وحلف شمالي الأطلسي، الطابق على صدر روسيا، من أكثر من اتجاه.

لذلك، ليس من المنطقي محاكمة الغرب على طبيعة ردّ فعله تجاه الحدث الأوكراني، وليست منطقيةً محاكمته على التخلّي عن قيمه، وادعاءاته، تجاه الحدث السوري. تلك قضايا لا تجد تصريفاً عادلاً لها في الحسابات السياسية. الهامش المسموح الخوض فيه هو تخلي الغرب، وأَميركا تحديداً، عن عملية ضبط الصراع، وإدارته، في هذه المنطقة، وهو ما تكفلت به، وأدارته، عقوداً، وكانت نتائجه باديةً للعيان على صعيد الصراع العربي الإسرائيلي، وكذا في مختلف التفاعلات الإقليمية منذ نهاية الحرب العالمية الثانية، أَي منذ إعلان المنطقة جزءاً من مصالح الأمن القومي الأميركي عالمياً."

ليس منطقياً محاكمة الغرب على طبيعة رد فعله تجاه الحدث الأوكراني، وليست منطقيةً محاكمته على التخلّي عن قيمه، وادعاءاته، تجاه الحدث السوري. تلك قضايا لا تجد تصريفاً عادلاً لها في الحسابات السياسية. الهامش المسموح الخوض فيه تخلي الغرب، وأَميركا تحديداً، عن عملية ضبط الصراع، وإدارته، في هذه المنطقة، وهو ما تكفلت به، وأدارته، عقوداً، وكانت نتائجه باديةً على صعيد الصراع العربي الإسرائيلي"

صحيحٌ أَن سورية لم تكن جزءاً من هذه المعادلة، باعتبارها، ودول أخرى، كانت تدور ضمن المدار السوفياتي، لكن هذا الأمر كان نظرياً إلى درجةٍ بعيدة. وعملانياً، انخرطت سورية في عملية تدويل المنطقة وقضاياها، بإشرافٍ أميركي، كما أن نظام الأسدين تكفل القيام بأدوارٍ ومهام مطلوبة أميركياً. وفوق هذا وذاك، خضع لشروط اللعبة الأميركية بالكامل، ولمقتضيات تنفيذها، وتجلّى ذلك في أدواره في لبنان، وموقفه تجاه قوى المقاومة الفلسطينية والحركة الوطنية اللبنانية. وتمثلت ذروة عملية التدويل تلك في المشاركة في حرب الخليج الثانية، حينما سعت الولايات المتحدة الأميركية إلى إعادة صياغة النظام الإقليمي، الشرق أوسطي، ليصبح أكثر تكيفاً مع منظومة العولمة الأميركية، فكان نظام حافظ الأسد من أشد المتحمسين للانخراط في هذا الواقع الجديد.

غير أن الارتباطات العضوية السورية الإقليمية، جغرافياً واجتماعياً، تفرض درجة حساسية عالية أكثر من الارتكان إلى مواقف سلبية، وسياساتٍ انتهازية، تنطوي على قدرٍ كبير من المقامرة، غير المضمونة النتائج، هي مقامرةٌ أَفضت إلى نتائج مسّت قاعدة التوازن التي سار عليها الغرب. على إثرها، صارت إيران قوةً إقليمية، بواقعٍ جغرافيٍّ حيويٍّ أكثر اتساعاً. تبعاً لذلك، خرجت المسألة من إطار الادعاءات، والسياسات الرغبوية، إلى الحيز العملاني والترجمة الواقعية، وسمح ذلك لإيران بالتموضع في قلب معادلة إقليمية، أَكثر تعقيداً، فتحت لها شرفةً على السياسة الدولية، بإعادة صياغة مقاربةٍ جديدةٍ لملفها النووي، باشتراطاتٍ لم تكن ممكنةً قبل ذلك.

وبعثت هذه المقامرة آمال روسيا بالعودة إلى مجال الفعل والتأثير الدوليين، وجعلتها تتعاطى مع الحدث السوري، وما يجري في الشرق الأوسط عموماً، بوصفه جزءاً من منظومة عناصر أمنها القومي. وبالتالي، زاد من تعقيدات العملية التفاوضية معها بشأن التسوية السورية، وصلت إِلى حد تجاوز مصالح السوريين، أنفسهم، معارضين وموالين، وفرض مخرجاً واحدا للعملية التفاوضية، يُفضي إلى انتصارها وحدها في العملية، أو لتستمر المأساة. أكثر من ذلك، ذهبت روسيا إلى ربط القضية السورية بمشروعها الجيواستراتيجي، القائم على مد نفوذها إلى مناطق إنتاج الغاز ونقله، باعتباره يشكل رهانها الإستراتيجي الأبرز في أن يكون لها دور تقريري مهم في النظام الدولي المعاصر.

لم تعد روسيا وإيران تصدران في مواقفهما في الملف السوري، راهنياً، من رهاناتٍ سياسيةٍ وعسكرية، عابرةٍ أو محتملة، بل على ما رسّختاه من معطياتٍ جغرافيةٍ جديدةٍ في الشرق الأوسط، باتت تتمثل بصراع الدم بين مكونات المنطقة، وذلك عبر ترسيمهما حدود النار. فقد أدى الحضور السلبي لكلتيهما في المشهد السوري إلى تشكيل فرصةٍ نادرةٍ، عبر العبث بالخريطة الجغرافية، للإجماع المشرقي وتصديعها، بحيث صارت الانتماءات الأولية خط الفلق الزلزالي بين المكونات. 

وهي، في الآن، تشكل رصيدهما الحاضر والمستقبلي، ويسعى الطرفان إلى إعادة صياغة جغرافية المنطقة، بمكوناتها الديمغرافية ولوجستيتها، طرق مواصلاتها ومعابرها، ذلك أَن صناع القرار في موسكو وطهران يرون الفرصة كبيرةً لتحقيق مثل هذا الأمر، في ظل الظروف الحالية، كما أَنهما يتبعان استراتيجية التمزيق المرحلي والطويل المدى، والذي يتحول، مع الزمن، أمراً واقعاً، يجد الجميع أنفسهم مضطرين للقبول به، في نهاية المطاف، هي السياسة الإسرائيلية نفسها المطبقة في فلسطين المحتلة.

حصل ذلك نتيجة إهمالٍ غربيٍّ ممنهج، هيأ المنطقة لحالة من الفراغ، ما سمح لبعض القوى، النبيهة استراتيجياً، إلى محاولة ملئه عبر اختراق ثغورٍ في التكوين السياسي الاجتماعي المشرقي، ذي الميول والاتجاهات المتضاربة، غير أَنها ما لبثت أَن أَصبحت وقائع جغرافية. وهي، عبر عملية التكريس الحاصلة بالوسائل الصراعية، تنذر بأن تتحول إلى حقائق قارة ونهائية، والغريب أَن منظّري الغرب الاستراتيجيين كانوا أول من رسم خرائط التفتيت التي يعمل الروس والإيرانيون على تطبيقها بحذافيرها، هي ذاتها خرائط الدم التي تحدّثوا عنها، والتي تسوّر حدود الإثنيات والمذاهب، وهو نمط أيضا يشبه نموذج "انتقام الجغرافيا" الذي رسمه  روبرت كابلان.

لكن، يبقى السؤال المهم عما إذا كانت سياسات الغرب تجاه هذا الانقلاب الجغرافي والسياسي، في الشرق الأوسط، مقصودةً وواعية، ستتم، بناءً عليها، مقتضياتٌ جديدةٌ في توجهات السياسة الدولية عموماً، أَم هي نوعٌ من الغفلة الاستراتيجية، تتزامن مع مواجهة الغرب أزمات عديدة، تدفعه إلى التركيز على قضاياه الداخلية، أكثر من الاهتمام بمشكلات العالم وأزماته؟

ثمة من يرى المسألة بنيويةً، بدرجةٍ أعقد مما يجري طرحها، ذلك أَن الإشكالية لا تكمن فقط في إطار استرخاء الغرب، وأَميركا تحديداً، بل هي انعكاسٌ لواقع قوة، ونذر نظام عالمي جديد. وبالتالي، تبدأ أولى خرائطه من المناطق الأكثر هشاشةً وقابلية للتطويع، كالشرق الأوسط وإفريقيا، غير أَن المسألة في التطبيق تبدو كاشفةً أكثر لضعف هذه الافتراضات، هي خليطٌ من سياساتٍ انتهازية، ورؤى قاصرة، أَفرزت خرائط جديدة للعالم، وجغرافية سياسيةً ذات خطوط أيديولوجية، فالغرب غرب والشرق شرق ولن يلتقيا، ثم دع الوحوش تفني نفسها بنفسها، أَلم يقلها رئيس الولايات المتحدة الأميركية باراك أوباما: إيران وروسيا تستنزفان نفسيهما، وقبل ذلك سأل: لماذا على الولايات المتحدة التدخل في سورية، ولا تتدخل في أوغندا؟

5E9985E5-435D-4BA4-BDDE-77DB47580149
غازي دحمان

مواليد 1965 درعا. كتب في عدة صحف عربية. نشر دراسات في مجلة شؤون عربية، وله كتابان: القدس في القرارات الدولية، و"العلاقات العربية – الإفريقية".