ثمة في نهر النيل العظيم، المكنى دومًا بالقاهرة، ثلاث جزر. لعلّ أهل التضاريس والجغرافيا، يجدون مبررات علمية لنشوء تلك "الجنات" الصغيرة في الأنهارالكبيرة. جنات صحيح، إذ إن غريب الطير والنبات يطيب له فيها المقام.
في نيل القاهرة إذن، ثلاث منها: "الزمالك" و"الدهب" و"الروضة المنيل". ثمة في هذه الأخيرة تحديدًا، ما جذب أفراد أسرة محمد علي باشا. نعم "مؤسس مصر الحديثة"، الملقب بعزيز مصر. في كل ما يمت لسيرة حياته بصلة، تنهض "الأساطير" التي تزيد من لمعان واستثنائية محمد علي باشا. كلّ ما يمسه الباشا، يتألّق ويعلو ويسمو. كذا غدت تلك البقعة الساحرة من الأرض: مصر، مملكة حديثة، قوامها جيش حديث، وإدارة حديثة، وتوق إلى التعليم الحديث واقتصاد وعمران أيضًا.
ضخامة الإنجازات وكثرتها، وتلك الشخصية المختلفة، أي محمد علي باشا، جعلت "النقد"، وإنْ كان خفيفًا، لا يمس الباشا ولا صنيعه.
للباشا القوي، سلالة ضعيفة. ويبدو أن الأوهام لم تكن تدانيه في هذا الخصوص، فقال بالتركية لا العربية بالطبع: "ولدي عجوز عليل، وعباس متراخ كسول، من عساه يحكم مصر الآن سوى الأولاد، وكيف لهؤلاء أن يحفظوها؟".
لم تخيّب السلالة ظنّ الباشا، فجاءت الثورة وأطاحت بالملكية عام 1952.
واحد من سلسلة الأحفاد، سمّي أيضًا محمد علي تيمنًا بالمؤسس. سلالة الرخاء والمال الوفير والبذخ والترف. للباشا "الصغير" قصر منيف في الجزيرة النيلية.
أنشأ الوالي قصره عام 1901. ويقال إن الباشا اهتم بنفسه بالزخارف والتزيينات، فقد كان هاويًا للعمارة والعمران، شغوفًا بالتصميم. ولعله كان يمني النفس بأن يغدو هو الباشا الكبير، لا أحد غيره يكون ملكًا على مصر. لكن الطريق إلى الباشاوية والملكية مليء بالتعرجات والمطبات والأطماع. السلالة الضعيفة لن تنجو.
حين غدت مصر العظيمة جمهورية، من بعد ثورة عام 1952، اتخذ القرار بتحويل القصر إلى متحف. ليست المتاحف صامتة على الإطلاق، بل هي تخبر قصص الماضي من خلال ما تضمه وتحتويه من مقتنيات. ولأمر ما، كانت مقتنيات المتحف تسرد القصّة من عهد "مؤسس مصر الحديثة" إلى عهد الثورة. أي الباشا وصنيعه، الباشا وإنجازاته، الباشا وانتصاراته، الباشا، ولا أحد إلاه. أما "رجاله" أو جنوده في الجيش والدولة الحديثة، المغيبون عن الإنجاز وراء عيني الباشا المتقدتين، فقد صاروا الحكاية كلّها في كتاب المؤرخ خالد فهمي الذي وُلد في الجزيرة النيلية؛ هناك حيث المكان والأجواء توحي بمجد غابر، لم يفتك الحنين بالمؤرخ، ونجا من عيني محمد علي باشا الوقادتين، وكتب: "كل رجال الباشا".