جريمة عوّاد بحق الوطن

18 مايو 2017
+ الخط -
كل ما يحيط بعوّاد في المستشفى وخارجه وفي هذا الوطن هو من مكرمات القائد المفدى الرمز. حتى مراحيض المستشفى وصراصير المطعم تشهد له بتلك المكرمات.

أدخل الممرضون عوّاد إلى غرفة العمليات لاستئصال الزائدة الدودية التي أذاقته الويلات ألماً. الأستاذ عواد كما ينادونه كان معروفاً بالرزانة والهدوء ورجاحة العقل. يحترمه الكبير والصغير.

حقن الممرض جسد عواد بحقنة المخدر ثم بدأ الطبيب الجراح بشق بطنه واستئصال الزائدة الدودية اللعينة. بينما حلّق عوّاد في أحلام جميلة لم يكن يعرفها من قبل. وصلت به تلك الأحلام إلى وطنٍ غير وطنه، لكنه ليس من مكرمات القائد الرمز. فهذا وطن آخر لا رموز فيه ولا قادة ولا أبطال ولا مكرمات. فالشوارع نظيفة وواسعة. والأشجار الخضراء ترافق المسافرين حيثما اتجهوا. المدارس والمستشفيات والحدائق والفنادق تشد الناظر إليها من روعة التصميم وفن العمارة. ولا وجود لرجال الأمن والعسس ولا أثر للسجون في هذا الوطن.

لم يشاهد، خلال جولته، شعراء البلاط ولا رجال دين يسبحون بحمد قائد ما، ولا حزباً رائداً وقائداً للدولة والمجتمع. ومن بين مجموعة من الفتيات على أحد الأرصفة اختار واحدة كان يعرفها دون أن يتذكر من هي فسحبها من يدها بقوة وغابا خلف الضباب ليتوّجا ملكاً وملكة.

انتهى الطبيب من إجراء العملية وبدأت ممرضة مقلوبة السحنة بإيقاظه وهو يقاوم بشدة. لأنه يرفض رفضاً قاطعاً أن يترك ذلك الوطن الذي كان يبحث عنه منذ زمن بعيد، فكيف له بعد أن وجده أن يتخلى عنه بتلك السهولة؟ لكنها تغلبت عليه في النهاية واستطاعت إيقاظه بقوة مفرطة، وهو لا يزال تحت تأثير المخدر الطبي.

فتح عواد عيناً وأبقى الأخرى مغمضة في محاولة منه للعودة إلى الحلم. جاهد كثيراً لكنه لم يفلح ففتحها ونظر في وجه الممرضة القبيحة وهو يحس بقوة وغضب شديدين: "لماذا أتيتِ بي إلى هنا أيتها الحمقاء؟". ابتسمت الممرضة ولم تجب. فهي معتادة على مثل هذه الحالة كثيراً بعد أن يستيقظ المرضى وهم تحت تأثير المخدر.

قطّب جبينه ثم كرر عليها السؤال دون أن يلقى جواباً من الممرضة المنهمكة في ترتيب أدوات الجراحة والطبيب الذي يغسل يديه وممرض آخر يحاول تجهيز سرير له لنقله إليه. حدق فيها مطولاً وقد اختلط عليه الواقع بالحلم. ولم يعد يميز بين وطن القائد الرمز الذي يملأ بطاقة الذاكرة عنده، ووطن اللارمز الذي عثر عليه اليوم في اللامكان ثم قال: "هل تعلمين ماذا فعلتِ الآن وممَ حرمتِني؟". ودون أن تنظر نحوه أجابت: "لا، ولا يهمني". استشاط عوّاد غضباً ثم أتبع حديثه: "لولا تطفلك كنت سأتوج على عرش الوطن. لكنك خربت عليّ كل شيء".

شهقت الممرضة والممرض والطبيب والمستشفى والمدينة وشهق الوطن كله. نظرتْ نحو الطبيب الذي بدأ يرتجف من الخوف. أما الممرض فهرب خارج الغرفة وبقيت هي تنظر في وجهه الذي لم يكن يبالي بشيء إلا كيف أنها قطعت عليه ذلك الحلم. 

لحظات قليلة ودون أن ينقل إلى سرير آخر في غرقة تعج بعشرات المرضى كانت دوريات الأمن تتفاوض في ما بينها لاستضافته على فنجان قهوة. وبعد جدال وسجال رست المفاوضات على الفرع 666 الذائع الصيت والمختص بمكافحة الإرهاب.

بما أنه لا يقوى على السير بعد العمل الجراحي تكفّل أربعة عناصر مدججين بالعضلات كالثيران المعلوفة بحمل عربته والانطلاق به نحو السيارة الخاصة التي ستنقله إلى الفرع. بينما كان يحسّ بنشوة غامرة وكأنه يحلق في الأفق ويطير مع العصافير والنوارس واللقالق.

بعد مرور عدة أيام طلب المحقق من الحارس إحضاره على الفور.

وقف عواد متأرجحاً أمام المحقق الغاضب جداً وهو لا يعلم سبب اعتقاله. فقال له المحقق: "انظر يا عواد. أنت متهم بعدة قضايا أقلها تؤدي بك إلى الإعدام، ولكنك إن اعترفت وساعدتنا في التحقيق سنحاول التخفيف عنك ومساعدتك قدر المستطاع". أطرق عواد رأسه وقد قبل بذلك العرض. ثم تابع المحقق: "أنت متهم بسرقة ذهب الوطن وآثاره وتزوير العملة الوطنية، والاستحواذ على نفط البلاد الذي هو ملك الشعب، وبيع أجزاء من الوطن لجهات معادية، وارتكاب جرائم بحق المواطنين الآمنين من خطف وقتل وترويع وإرهاب. فما هو قولك؟". سكت عواد قليلاً ودون أن يرفع رأسه قال: "نعم أعترف يا سيدي".

انفرجت أسارير المحقق وأحس بغبطة شديدة فعاجله بقوله: "جميل جميل أحسنت. لكن عليك أن تخبرني الآن، متى قمت بكل تلك الجرائم". ثم أسند المحقق رأسه على يديه منتظراً الإجابة.

رفع عواد رأسه ونظر نحو السقف وبدأ يبتسم، ثم يبتسم، ثم يبتسم. حتى ظهرت بقايا أسنانه المكسورة تحت التعذيب، وأجاب: "نعم لقد قمت بها عندما توّجت على عرش الوطن". ثم سقط أرضاً ليعود من جديد إلى الوطن الذي لا رمز فيه.

 

نور الدين الإسماعيل
نور الدين الإسماعيل
خريج كلية الآداب جامعة حلب قسم اللغة العربية. يكتب الشعر والقصة القصيرة الساخرة والمسلسلات الإذاعية الساخرة لراديو فريش المحلي. كتب سيناريو فيلم قصير "المارد" قام بأداء الأدوار فيه مجموعة من الشباب الموهوبين في الداخل السوري. يقول: "عاطل عن الأمل"