جريمة الكيماوي بين وحشية النظام والصمت الدولي
ارتبط الاستبداد تاريخياً بأكثر الجرائم بشاعةً، وأشدها قسوة، فلم يكن الطغاة ينظرون إلى شعوبهم بوصفهم بشراً، وإنما يعتبرونهم قطعاناً ينبغي التحكم فيها، وقتل كل من يخرج عن طاعتهم، ويرفض حياة القطيع، ويطالب بالحرية. وفي كتابه "الجمهورية"، وصف أفلاطون دموية الطاغية قائلاً: "من يقتل الناس ظلماً وعدواناً، ويذق بفم ولسان دنسين دماء أهله ويشردهم ويقتلهم، فمن المحتم أن ينتهي به الأمر إلى أن يصبح طاغيةً، ويتحول إلى ذئب". والنماذج في هذا الصدد كثيرة، لعل أشهرها ما اقترفه ستالين بحق الشعوب الخاضعة للحكم السوفييتي، أو ما عمد إليه بول بوت، طاغية كمبوديا، من تصفية منهجية لجماهير الشعب، فما إن استولى على الحكم، حتى شرع في تنفيذ مجازره، لتبدأ بعدها المذابح المروعة في أحد أكثر المشاهد إجراماً ووحشية والتي عرفتها الإنسانية، مذابح سوف تفضي إلى إفناء ما يفوق ربع الشعب الكمبودي حينها، دفنوا في ما سيعرف لاحقاً بحقول الموت.
وفي المنطقة العربية، كانت الدماء ترافق أنظمة الطغيان حيثما حلت، وكأنما كراسي الحكم لا تصبح مناسبة لأصحابها، إلا إذا كانت معمدةً بالدم، مثبتة بالجماجم، وما زالت صفحات التاريخ تحتفظ بذكرياتٍ مريرة عن مجازر كثيرة، نفذتها الأنظمة العربية فاقدة الشرعية، بداية من مجزرة حماة السورية سنة 1982، ومروراً بمجزرة سجن أبو سليم في ليبيا، سنة 1996، ومجزرة معتقل اليرموك، الذي نفذته كتائب معمر القذافي في بداية الثورة الليبية 2011، ووصولاً إلى مجازر الحرس الجمهوري وميداني رابعة العدوية والنهضة، التي نفذتها أجهزة النظام الانقلابي في مصر. وتظل لمجزرة الغوطة الشرقية، التي اقترفها شبيحة النظام السوري، في 21 أغسطس/آب 2013، خصوصيتها، لأسبابٍ متعددة، أهمها:
ـاستخدم النظام السلاح الكيماوي ضد شعبه، مما أسفر عن مقتل وإصابة مئات بصورة غاية في الوحشية، حيث لم يكن استخدام هذه الأسلحة، المحرمة دولياً، مبرراً بأي شكل، فلم يكن الضحايا من المقاتلين، ولم يكونوا جيشاً من العدو الذي يحتل أراضي سورية.
ـ تزامن الهجوم مع زيارة لجنة التفتيش الأممية إلى دمشق، مع ما يعنيه هذا السلوك الشاذ، الذي اقترفه النظام من عدم تقدير للمنظومة الأممية.
ـ استفاد النظام من دعم دولٍ كبرى له، وتمثلت هذه الإفادة، خصوصاً، في الموقف الروسي، الذي سخر كل جهوده، من أجل إبعاد التهمة عن النظام، ومنحه صك براءة، لا يستحقه، على الرغم من ثبوت تورطه في مجازر كثيرة، قبل هذه الحادثة وبعدها.
ـ على الرغم من تأكيد الأمين العام للأمم المتحدة، بان كي مون، تورط نظام الاستبداد السوري في جريمة الغوطة الشرقية، وتصريحه أن "هذه جريمة خطيرة، ويجب تقديم المسؤولين عنها إلى العدالة في أقرب وقت ممكن"، وقوله إن الرئيس السوري، بشار الأسد، "ارتكب جرائم كثيرة ضد الإنسانية"، ويجب أن يحاسب على جرائمه، غير أن هذه التصريحات ظلت مجرد كلمات جوفاء، لم تتبعها قرارات فعلية، يمكن أن تضع حداً لمثل هذه الجرائم، وتمنع تكرارها مستقبلاً.
كشفت جريمة الغوطة الشرقية، التي مرت ذكراها قبل أيام، عن جملة من الحقائق الواضحة، مؤداها أن أنظمة الطغيان على استعداد لاقتراف أشد الجرائم فظاعةً، من أجل البقاء في الحكم، وأنها غير مستعدة للتنازل عن الحكم بصورة سلمية، مما يعني أن سقوطها يستلزم إراقة دماء كثيرة، وتدمير البلاد بأكملها، وهذا النزوع المعلن إلى الإجرام هو الذي يمنح المبرر لظهور مجموعاتٍ مسلحة، تمارس، بدورها، عمليات مسلحة عنيفة ضد خصومها من أتباع النظام، في ظل صمت دولي مريب.
وقد تداخلت عوامل كثيرة منحت النظام فرصة الإفلات من المحاسبة، والحفاظ على مناطق نفوذه، واستمرار ممارساته الدموية، ومن هذه العوامل:
ـ تحاول القوى الدولية، وتحديداً الولايات المتحدة، وربيبتها دولة الكيان الصهيوني، وضع استراتيجية للنجاة من الارتدادات المحتملة لانهيار النظام السوري، لإدراكهم أن غياب نظام قوي كان يضبط الحدود يمثل مشكلاً حقيقياً، قد يفتح عليهم جحيم العمليات العسكرية من أطراف كثيرة، معروفة أو مجهولة.
ـ تصر الدول الحليفة لنظام الأسد على رفض أية شروط مسبقة للحل السياسي، وخصوصاً تلك التي تفرض رحيل الأسد أولاً، وهو ما يقابله رفض من المعارضة السورية، التي تعتبر أن بقاء رأس النظام السوري يعني فشلاً للثورة، وأن القبول باستمراره خيانة لدماء الشهداء.
ـ استمرار الدعم الروسي والإيراني الواسع للنظام السوري مما أفشل كل مبادرة دولية داعمة للشعب السوري، بالإضافة إلى عدم تحمس القوى الغربية للإطاحة بالنظام، لأسباب استراتيجية تتعلق أساساً بمصالح الكيان الصهيوني، الذي يجاور الأراضي السورية.
ـ الاستفادة من وجود مجموعات مسلحةٍ، لا تخدم أجندة الشعب السوري، مثل تنظيم داعش، بهدف تصوير صراع النظام السوري ضد الثورة الشعبية، بوصفه حرباً ضد الإرهاب الدولي الممتد في المنطقة.
إن مآل الثورة السورية، اليوم، أصبح خاضعاً لتجاذبات القوى الدولية، وللنزاع بين أصحاب مصالح مختلفة، غير أن هذا التنازع لا ينفي أن العامل الحقيقي والحاسم يبقى، في النهاية، بيد الشعب السوري وطلائعه الثورية، مما يعني أن محاولات الالتفاف على الحراك الشعبي السوري ستظل مستمرة إلى أن يحسم الصراع، وبصورة نهائية، لمصلحة الثورة، بعد أن فقد نظام الاستبداد، في ظل جرائمه المستمرة، مبرر وجوده، وعلى الرغم من كل ما جرى، ويجري، ستكون الكلمة للشعب، فإرادة الشعوب لا تقهر.