جرائم "الجنجويد" في الخرطوم... من هبة سبتمبر إلى فض الاعتصام

08 يونيو 2019
شارك أفراد "الدعم السريع" بعمليات قتل محتجين (فرانس برس)
+ الخط -

لم تكن المجزرة التي ارتكبتها قوات الدعم السريع، خلال الفض الدموي للاعتصام أمام القيادة العامة للجيش وسط الخرطوم، فجر الإثنين الماضي، والتي باتت تعرف في الأوساط المحلية بـ"ليلة الغدر"، الأولى من نوعها، إذ يمتلك أفراد هذه المليشيات، الذين يأتمرون بأمر نائب رئيس المجلس العسكري الانتقالي الجنرال محمد حمدان دقلو، المعروف بـ"حميدتي"، سجلاً حافلاً من الانتهاكات بحق المدنيين، من إقليم دارفور، مروراً بجنوب كردفان، والنيل الأزرق، إذ لطالما اعتمد النظام عليهم لسحق المدنيين والتنكيل بهم.

وبالرغم من محاولات المجلس العسكري التعتيم على تفاصيل مجزرة فض اعتصام الخرطوم، عبر قطع خدمة الإنترنت في البلاد، يجري تداول كثير من القصص المرعبة عن تفلتات خطيرة لأفراد المليشيا بحق المدنيين، لا تقل رعباً عن القصص التي كانت تثار بحقهم في إقليم دارفور، غربي البلاد.
ويُحمّل المحتجون والمعارضة في السودان قوات الدعم السريع المسؤولية الأكبر في فض اعتصام القيادة العامة بالقوة المفرطة، بما يشمل القتل والاعتداء العنيف والجلد بالعصي والسياط، ومن ثم المشاركة بعنف في قمع تحركات شعبية رفضاً لما جرى، والتي ذهب ضحيتها حتى الآن 113 قتيلاً مدنياً، طبقاً للجنة أطباء السودان المركزية، بينما تتحدث وزارة الصحة السودانية عن سقوط 61 قتيلاً، في محاولة منها لتخفيف المجزرة.
ووفقاً لإفادات متطابقة لأشخاص تحدثوا مع "العربي الجديد"، فقد شارك أفراد الدعم السريع في عمليات قتل محتجين على مجزرة القيادة العامة في عدد من أحياء الخرطوم، بالإضافة إلى إذلال مدنيين، عبر جلدهم بالهراوات والسياط، إلى جانب تسجيل عدة حوادث نهب وترويع تحت قوة السلاح، ليتبين أن شعار "كل البلد دارفور" الذي رفعه المحتجون في بدايات احتجاجاتهم ضد عمر البشير حولته المليشيات إلى شعار يظهر كيف أن كل مدينة أو منطقة تقرر الاحتجاج مهددة بأن يكون مصير قاطنيها شبيهاً بمصير أهالي دارفور، الذين عانوا على يد الجنجويد من جرائم القتل والتعذيب والاغتصاب والتهجير.  



وشاركت قوات الدعم السريع سابقاً في عدة محاولات لفض المعتصمين السلميين أمام مقر القيادة العامة، قبل أن تنجح في تحقيق ذلك قبل أيام، على حساب أرواح عشرات السودانيين. وإزاء ذلك، خرج حميدتي ليقول إن قوات تنتحل صفة "الدعم السريع" تقف وراء الانتهاكات في الخرطوم، لكنه شدد على التزامهم بإزالة المتاريس المقامة في عدد كبير من شوارع العاصمة للسماح "بعودة الحياة" إلى العاصمة. وأكّد دقلو، الذي يشغل منصب نائب رئيس المجلس العسكري، أنّه يقف إلى جانب "الثوّار"، لكنّه قال إنّه لن يسمح بأن ينزلق البلد إلى الفوضى. ودافع المجلس العسكري، في بيان، عن قوّات الدعم السريع ضدّ ما وصفه بأنّه "حملة إعلامية منظّمة عبر وسائل التواصل الاجتماعي تقوم بها جهات مغرضة هدفها إشاعة الأكاذيب وتلفيق التهم ودمغ قوات الدعم السريع بالأباطيل وهي منها براء". ووصف الضابط المتقاعد محمد إسماعيل قوات الدعم السريع بأنها قوات قبلية متماسكة، تدين بالولاء لقائدها حميدتي ولا تتحرك دون إمرته. وقال لـ"العربي الجديد"، إنهم بانتظار نتائج لجنة التحقيق التي كونها المجلس العسكري بشأن ملابسات سقوط مدنيين في عملية فض اعتصام القيادة العامة.


بدوره، حمَّل مسؤول ملف دارفور في حزب المؤتمر الشعبي، بارود صندل المحامي، المجلس العسكري مسؤولية ما جرى أمام القيادة العامة وفي شوارع الخرطوم. وأشار، في حديث مع "العربي الجديد"، إلى "الرفض بشدة" لما قامت به القوات الأمنية (الدعم السريع، والشرطة، والجيش) بفض الاعتصام بالقوة المفرطة، واصفاً ما حصل بأنه "نقطة سوداء في تاريخ الثورة السودانية السلمية". وأكد "ضرورة دمج قوات الدعم السريع في القوات المسلحة، وذلك لضبطها وضمان تقيد أفرادها بالعقيدة العسكرية للجيش السوداني".

لكن اللجوء إلى هذا الخيار، أو محاولة تحجيم دورها في الفترة المقبلة، لن يكون بالمهمة السهلة، أخذاً بالاعتبار تاريخ حميدتي، ليس فقط الدموي بل أيضاً المليء بالتمرد وردود الفعل غير المدروسة، والتي غالباً ما يقوم بها للضغط لتحقيق أهدافه. وتكونت قوات الدعم السريع، التي تعرف بـ"الجنجويد"، في بدايات الصراع في دارفور في العام 2003 على يد حميدتي، الذي انضم مع مجموعة صغيرة من أفراد قبيلته الرزيقات، ذات الأصول العربية، إلى قوات حرس الحدود الحكومية بقيادة ابن عم حميدتي، زعيم قبيلة "المحاميد" موسى هلال، الذي فرض مجلس الأمن الدولي في العام 2006 عقوبات عليه تشمل قيود سفر وتجميد أموال. وتعرض هلال للاعتقال ثلاث مرات، حيث سجن مرتين في العام 2002 بتهمة قتل جنود سودانيين في حادثتين منفصلتين. كما اعتقل في المرة الثالثة في 27 نوفمبر/ تشرين الثاني 2017 في خضم حملة حكومية لنزع أسلحة الجماعات والكيانات المسلحة في دارفور.

في هذا الوقت تمكن حميدتي من التحول إلى رقم صعب في المعادلة السودانية. ففي يونيو/ حزيران من العام 2006 قابل حميدتي الرئيس المخلوع عمر البشير، مع قائمة طلبات، فوفر الأخير الدعم والإسناد لقواته البالغ عددها يومذاك 800 عنصر، ومن ثم أرسلهم من العاصمة لقتال الحركات المسلحة في دارفور على طريقة حرب العصابات. وسرعان ما اكتسبت القوة صيتاً وتنامت قوتها بعد عدة "انتصارات" في الإقليم، لكن تصرفات أفرادها كانت مثار جدل، فجرى طردهم من قبل سلطات ولاية شمال دارفور بعد تورطهم في عدة حوادث، تشمل القتل.

وتقول معلومات إن حميدتي تمرد على الحكومة في العام 2007 بعدما تم منعه من مقابلة البشير، ولكن الجنرال وصف الحادثة بأنها لم تكن أكثر من "اعتصام" انتهى بتفعيل الحكومة لقواته مجدداً إثر غزو الخرطوم على يد حركة العدل والمساواة في مايو/ أيار من العام 2008. ورداً على ذلك، أطلقت الحكومة يد قوات الدعم السريع في دارفور، فحققت انتصارات كبيرة ضد الحركات المسلحة في دارفور وجنوب كردفان، أبرزها معركة "قوز دنقور" ضد حركة العدل والمساواة. وبحلول العام 2010، شكّلت السلطات السودانيّة "قوات الدعم السريع"، بقيادة حميدتي، انطلاقاً من مجموعة من المليشيات التي كانت منخرطة في الحرب الدائرة في دارفور. وأدت التجاوزات التي ارتكبتها هذه القوات في دارفور إلى ارتفاع الأصوات المنتقدة لها، ما دفع والي شمال دارفور أحمد هارون لطردهم من الولاية في العام 2014.

وتتهم قوات الدعم السريع بالمشاركة في قتل أكثر من 200 متظاهر في "هبّة" سبتمبر/ أيلول العام 2013، وهو أمر يرفضه حميدتي الذي يصر على أن قواته كانت خارج الخرطوم يومذاك. وكان قد سقط عشرات القتلى خلال احتجاجات اندلعت في الخرطوم وعدد من المدن السودانية، في سبتمبر 2013، بعد رفع الدعم الحكومي عن الوقود. وأقرت الحكومة وقتها بسقوط 85 قتيلاً، بينما تقول منظمات حقوقية إن ما لا يقل عن 200 شخص قتلوا في عمليات قمع تلك التظاهرات. وجراء هذه الانتقادات، وفي محاولة لتقنين وضعيتها، تم ربط قوات الدعم السريع بجهاز الأمن والاستخبارات السوداني، لكن الانتقادات لاحقتها، أسوة بما فعل رئيس حزب الأمة القومي الصادق المهدي الذي كان لا يرى فيها سوى مليشيا متفلتة. كذلك، فقد تنامت الاعتراضات العسكرية بشأن تغول صلاحيات "الدعم السريع" على القوات المسلحة، ما دفع إلى ضمها في العام 2017 إلى الجيش، عبر قانون خاص، في محاولة لضبط أدائها وإنهاء تفلتات أفرادها. وكانت قبل يناير/ كانون الثاني 2017 تتبع لجهاز الأمن والاستخبارات.

وعكست تبعية القوات لإمرة للقائد الأعلى للقوات المسلحة، بحسب نص القانون، حالة انعدام ثقة البشير في الجيش السوداني، مخافة الانقلاب عليه. وزاد من ذلك الاعتقاد اعتماد المخلوع على قوات الدعم السريع في تغذية التحالف العربي بقيادة السعودية في حرب اليمن، إلى جانب إمساكها بملف مكافحة الهجرة غير الشرعية والاتجار بالبشر الموقع بين السودان ودول الاتحاد الأوروبي. وسبق أن هدد حميدتي بالتوقف عن مهامه على الحدود مع ليبيا وتشاد، في حال استمر وضع السودان في قوائم الدول الراعية للإرهاب. ومن العلامات الفارقة في مسيرة قوات الدعم السريع، سيطرتها على "جبل عامر"، أحد أهم المناجم السودانية لإنتاج الذهب بالبلاد، وهو ما دفع حميدتي للتصريح بدعمه الاقتصاد المتداعي في آخر أيام عهد البشير.