جديد التطبيع .. قمّة للسلام المُفترى عليه

29 اغسطس 2020
+ الخط -

ينشط فريق الشؤون الخارجية في إدارة دونالد ترامب، هذه الأيام، وبإيقاع أقرب إلى الهوس، في تكريس التطبيع العربي مع دولة الاحتلال. وقد تولّى الوزير مايك بومبيو مهمة نظيره الإسرائيلي، غابي أشكنازي في ترويج مزايا التطبيع مع تل أبيب، وذلك بحثّ الخرطوم على الانسياق وراء هذه الموجة، والالتحاق بها، وحثّ المنامة ومسقط على المسارعة إلى الالتحاق بالقطار، فيما يتحدث ترامب وصهره جاريد كوشنر أن التطبيع السعودي "حتمي". إنه هوس الإدارة وفريقها الليكودي لاستغلال الوقت المتبقي على ولاية ترامب، من أجل تسجيل إنجازات له، لعلها تسعفه في معركة الانتخابات العسيرة، مع تقديم دعم سخي لبنيامين نتنياهو في ائتلافه المضطرب مع تكتل أزرق أبيض. وقبل ذلك، فإن كوشنر وبومبيو، ومعهما نائب الرئيس مايك بنس، يسعون إلى أداء ما يعتبرونها واجبات دينية لكل منهم في نصرة الاحتلال الإسرائيلي ودعمه وتعظيمه وتمكينه من اختراق الكيان العربي، وإلحاق مزيد من التهميش بالجانب الفلسطيني، ومضاعفة الضغوط عليه.

يسعى كوشنر وبومبيو، ومعهما نائب الرئيس مايك بنس، إلى أداء ما يعتبرونها واجبات دينية لكل منهم في نصرة الاحتلال الإسرائيلي

وإذ تتخذ هذه الهجمة طابعاً احتفاليا يتسم بالشعوذة السياسية، والتغزّل بسلامٍ لم يتحقق بين طرفي الصراع، وكما حدث في ورشة البحرين في بحر العام الماضي، ففي جعبة كل من كوشنر وبومبيو مزيد من الاحتفالات التي يجري الإعداد لها، ومنها ما نشرته صحيفة "إسرائيل اليوم"، المقرّبة من نتنياهو، عن استعداداتٍ ترعاها واشنطن لقمة سلام إقليمية في غضون الأسابيع القليلة المقبلة، وكانت هذه الاستعدادات في صلب جولة بومبيو أخيرا من أجل التحضير لهذه القمة، بعد أن طويت صفحة الصراع في أغسطس/ آب الجاري، وتم إشهار خيار التطبيع العربي الصهيوني في الشهر نفسه، وخلافاً لما اعتقده كثيرون من أن الطريق إلى السلام صعب المنال، ووعر وشائك. وذكرت الصحيفة أن الولايات المتحدة تحاول "تأمين مشاركة البحرين وعُمان والمغرب والسودان وتشاد، إلى جانب إسرائيل والإمارات". وأوضحت أن "الدول الأخرى، ومن ضمن ذلك المملكة العربية السعودية ومصر والأردن، لم تؤكد بعد مشاركتها في القمة". بينما رفضت السلطة الفلسطينية الدعوة إلى هذه القمة، ورفضت استقبال رئيس الدبلوماسية الأميركية، بومبيو، لهذا الغرض، وأعلنت أنه غير مرحّب به. 

ليس للقمة العتيدة من جدول أعمال ومن مهمات محدّدة، سوى جمع أكبر عدد ممكن من القادة العرب مع نتنياهو ومع العرّاب الأميركي في عاصمة خليجية

ويبدو من خبر الصحيفة الإسرائيلية أن النية قائمة لعقد لقاء قمة، ومن غير أن تتضح هوية الدول التي ستشارك فيها، وأنها مفتوحة ومتاحة لمن يرغب في الانضمام إليها، والأكثر وضوحا أن ليس للقمة العتيدة من جدول أعمال ومن مهمات محدّدة، سوى جمع أكبر عدد ممكن من القادة العرب مع نتنياهو ومع العرّاب الأميركي في عاصمة خليجية، والتقاط لقطاتٍ "تاريخية" في ذروة حملات الانتخابات الرئاسية الأميركية، وأن القمة المنتظرة سوف تشكل عمليا بديلا عن القمة العربية التي لم تنعقد بحجّة كورونا!

يحدث ذلك كله، وفي سبيله إلى الحدوث، بينما تتمسك أغلبية دول العالم بقرارات الشرعية الدولية المتعلقة بالصراع الفلسطيني الإسرائيلي، وترفض القفز عن محدّدات الحلول، وبينما تلقى توجهات دولة الاحتلال إلى ضم أجزاء واسعة من الضفة الغربية المحتلة رفضا دوليا، مع التحذير من ردود فعل، سوف تتخذها بعض الدول، إذا ما ما تم المضي في طريق الاستيلاء على أراض محتلة، فإن موجة التطبيع الجديدة جاءت في هذا الظرف بالذات، وبدلاً من تشديد الضغوط على دولة الاحتلال من الجانب العربي، فقد شاء بعضهم اختيار هذه الآونة بالتحديد، للذهاب إلى التطبيع إلى آخر مدى، وفي أسرع وقت ممكن، وهو ما لم يحلم به الطرف الآخر من قبل، في صراعه الطويل والمرير ضد الحقوق العربية.

سعي إلى منح دولة الاحتلال مكافآت سخية، جرّاء احتلالها المديد للأراضي العربية

ويتساءل المرء عن الانطباع الذي يتولد في العالم عن صورة العالم العربي، وهو يتراجع عما ظل يؤمن به عقودا، ويحشد الصفوف من أجله، وذلك في الهرولة أمام دولة الاحتلال، والسعي إلى منحها مكافآت سخية، جرّاء احتلالها المديد للأراضي العربية، وإنكارها العنصري والاستعماري حق شعب عربي في الحياة والحرية على أرضه. هذا مع إيهام الذات أن إسرائيل إن هي إلا دولة مثل غيرها من الدول، وكل ما في الأمر أنها أكثر تقدّماً في مجال التكنولوجيا والاتصالات والتصنيع العسكري والأبحاث الزراعية وبناء اللوبيات في الخارج للعمل لمصلحتها، وإن رفضها الدائم القرارات الدولية وأحكام القانون الدولي، والعمل بما يناقضهما، وتمسّكها على الدوام بالخيار العسكري، حتى في التعامل مع أطفال محتجين، هو مجرّد تفاصيل ثانوية لا تستحق التوقف عندها والانشغال بها. ويجري تعليل ذلك كله، وفي المقام الأول، بتهيئة الظروف للصمود أمام إيران وأطماعها. ولكن كيف لطهران أن تأخذ الصمود في وجهها مأخذ الجد، فيما هي تراقب مشهد انهيار الصمود العربي الرسمي أمام دولة الاحتلال؟ هل ستحذّر من دخول العامل الإسرائيلي إلى المنطقة؟ أجل سوف يشكل ذلك مصدرا للحذر الشديد لدى طهران. ولكن ماذا لو شاء الطرفان، الإيراني والإسرائيلي، أن يتخذا من أراضي الآخرين في دول الخليج مسرحاً لصراع محتدم، ومتعدد الأشكال، وربما مستتر بينهما، ألا يخل ذلك بمعادلات الأمن والاستقرار إخلالاً جسيماً؟ علماً أن وجود قواعد غربية في سائر دول الخليج قد أسهم في لجم المطامع الإيرانية عقودا، فما الحكمة من إدخال العامل الإسرائيلي، وذلك مع الحديث المتواتر عن علاقات "كاملة" وعن اتفاقيات مزمعة تشمل عديد الجوانب، بما فيها الأمن؟ 

لن يكون لاجتماع عربي إسرائيلي ينتحل صفة قمّة سلام من قيمة تتعدّى ورشة البحرين 

لن يكون لاجتماع عربي إسرائيلي ينتحل صفة قمّة سلام من قيمة تتعدّى ورشة البحرين التي أقيمت قبل عام، وسوى ذلك سوف يشكل عقدها صدمةً قوية للشعوب العربية، إذ هذه الشعوب هي المستهدفة بالذات بهذا الاستفزاز غير المسبوق، إضافة إلى أن انعقادها إنْ تم سوف يمثل تساوقاً مع صفقة ترامب نتنياهو، وتفعيلاً لها، وعلى حساب الشعب الضحية، والأهم أن هذه التطورات سوف تغلق الطريق إلى السلام، السلام الجدّي الذي يستحق اسمه، وما دام قد تم الاستغناء عن مبدأ "الأرض مقابل السلام"، واستبداله بشعار "السلام مقابل السلام"، فلماذا يعيد المحتلون الأرض إلى أصحابها؟

محمود الريماوي
محمود الريماوي
قاص وروائي وكاتب سياسي من الأردن.